وهذه الآية نظير قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون" فقد ذكر فيها ذكر الله وذكر آياته.
وقد تقول: إذا كان المراد خشوع القلب فلم لم يقل مثلا: (ألم يأن لقلوب المؤمنين أن تخشع لذكر الله) أو (ألم يأن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله) ونحو ذاك وقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"؟
والجواب أن ذلك لجملة أسباب منها: أنه حذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب وليس كقلوب الذين أوتوا الكتاب، فقال "ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب" فناسب أن يكون الكلام على المؤمنين بمقابل الذين أوتوا الكتاب.
ومنها أنه قال "وكثير منهم فاسقون" وهذا وصف للأشخاص لا للقلوب فأراد أن يحذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب في قسوة القلوب وفسق كثير منهم، فناسب قوله "ألم يأن للذين آمنوا" أن يكون بمقابل الذين أوتوا الكتاب.
ومها أنه ذكر المؤمنين وقلوبهم، وذكر أهل الكتاب وقلوبهم فناسب ذلك ألطف مناسبة. وقال (أوتوا الكتاب) ولم يقل آتيناهم الكتاب لأنه في مقام الذم لهم، ومن سمة التعبير القرآني أنه إذا ذم أهل الكتاب بنى الفعل للمجهول فقال (أوتوا الكتاب) وإذا مدحهم أسند الفعل إلى نفسه تعالى فقال "آتيناهم الكتاب".
... "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ"
بين أن طول الأمد يقسي القلوب فحذرنا من أن نكون كذلك فإنه ينبغي أن نتعهد قلوبنا وألا ندع للقسوة سبيلا إليها، وفي ذكر الله وما نزل من الحق غناء وكفاية لحياة القلوب وخشوعها.
وأسند القسوة إلى القلوب وذلك بمقابل إسناد الخشوع إلى القلوب أيضا، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لم يسند القسوة في القرآن الكريم إلا للقلوب ولم يسندها إلى غيرها، قال تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة" البقرة، وقال: "ولكن قست قلوبهم" الأنعام، وقال: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية" المائدة، وقال: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" الزمر، وغيرها، وذلك أنه إذا قسا القلب قسا صاحبه وإذا خشع القلب خشعت الجوارح.
وقد تقول: ولم قال "كالذين أوتوا الكتاب من قبل" فذكر (من قبل) ولم يقل (كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد) من دون أن يذكر "من قبل"؟
والجواب أنه لو قال ذلك لم يدل على أن الأولين قست قلوبهم، بل لربما دل على أن المعنيين هم المعاصرون لزمن الرسول، فلما قال "من قبل" دل على أن آباءهم الأولين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فما بالك بهؤلاء وقد تطاول عليهم الزمن؟ فذمهم وذم أسلافهم بخلاف ما لو حذف "من قبل"
ثم إنه حذرهم من أن يكونوا كأولئك الأولين فما بالك بالآخرين؟ فيكون التحذير عن التشبه بهؤلاء أشد وأشد.
... "وكثير منهم فاسقون"
ذكر أن كثيرا منهم فاسقون خارجون عن طاعة الله، ومجيء هذا القول بعد قوله "فقست قلوبهم" يدل على أن قسوة القلب من أيباب الفسوق ودواعيه، وبالمقابل يكون خشوع القلب من أسبابا لطاعة ودواعيها.
وقد تقول: لقد قال في أكثر من موطن إن أكثرهم فاسقون بصيغة اسم التفضيل، وقال ههنا "كثير منهم فاسقون" فما حقيقة الأمر؟ أإن كثيرا منهم فاسقون أم إن أكثرهم فاسقون؟ وما السبب في هذا الاختلاف في التعبير؟
والجواب أنه لا تناقض بين قوله "إن كثيرا منهم فاسقون" وقوله "إن أكثرهم فاسقون" فقوله "إن أكثرهم فاسقون" يعني أن كثيرا منهم فاسقون، وإنما التناقض يكون لو قال (إن قليلا منهم فاسقون) أو (إن أقلهم فاسقون). فقولك (محمد أفضل الناس) لا يناقض قولك (إنه فاضل) وقولك (هو أعلم الناس) لا يناقض قولك (هو عالم) ولكنه يناقض قولك (هو أجهل الناس) أو هو جاهل.
أما لماذا عبر عن ذلك مرة بقوله (كثير) ومرة بـ (أكثر) فهذا ما يقتضيه سياق كل تعبير، فإنه يعبر بـ (أكثر) إذا كان السياق في تعداد أسوأ صفاتهم والإطالة في ذكرها بخلاف الوصف بـ (كثير) فإنه لا يبلغ ذلك المبلغ، وإليك إيضاح ذلك
لقد جاء الوصف بـ (أكثر) في موضعين وهما قوله (وإن أكثركم فاسقون59) المائدة، وقوله (وأكثرهم الفاسقون110) آل عمران، وبالنظر في سياق كل من الآيتين يتضح ما ذكرته.
¥