تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[د. عدنان الاسعد]ــــــــ[10 - 01 - 2007, 06:03 م]ـ

الإحتباك عند العلماء قديماً وحديثاً

تناول علماء البلاغة المتأخرون هذا الفن بشيءٍ من التفصيل والاهتمام لا سيّما في كتب التفسير كالبقاعي (855هـ) والالوسي (ت 1025هـ) وغيرهما, إلاّ أن هناك من أشار إليه من طرفٍ خفي, ربما كان له بهذه الإشارة الفضل في التنويه به والتنبيه عليه, ويمكن أن نتابع ذلك عبر التسلسل التاريخي ونستطيع أن نعدّ سيبويه (180هـ) أول من أشار إليه إشارة عابرة من غير تنظير أو استفاضة عند وقوفه على قوله تعالى: ? وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ? (البقرة:171) إذ قال: ((لم يشبهوا بما ينعق إنما شبهوا بالمنعوق به, وإنما المعنى: ومثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع, ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى)) (16) , وهذا هو الإحتباك بعينه حيث حذف من الأول (داعي الكافرين) لدلالة (الذي ينعق) عليه في الثاني , وحذف من الثاني (المنعوق به) لدلالة الأول عليه وهو (الذين كفروا).

ثم ذكر المفسرون تباعاً بعد سيبويه إشارات لا يمكن أن ترقى إلى مستوى التنظير, منها ما ذكره الطبري (310هـ) عند تفسيره لقوله تعالى: ? وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ? (البقرة/ 135) ما في معناه وهذا يعني قالت اليهود كونوا هوداً تهتدوا , وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا (17) , وهذا من الإحتباك أيضاً لأنه حذف من الأول (تهتدوا) لدلالة (تهتدوا) الثانية عليه , وحذف من الثاني (كونوا) لدلالة (كونوا) في الأول عليه , إذ المعلوم أن اليهودية تكفر النصرانية ولا تجوزها والنصرانية تكفر اليهودية ولا تجوزها , فلا يجوز أن يراد به التخيير (18).

أما أبن عطية (ت 478 هـ) فقد وردت عنده إشارة واضحة إلى الإحتباك في قوله تعالى: ?لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً? (الأحزاب/24) إذ قال: ((تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم, والتوبة موازية لتلك الإدامة , وثمرة التوبة تركهم دون عذاب , فهما درجتان إقامةٌ على نفاق أو توبة منه , وعنهما ثمرتان تعذيبٌ أو رحمة , فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هذين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره)) (19) , وبهذا القول تصبح الآية من الإحتباك لأنَّ الحذف وقع من الطرفين فذكر (العذاب) أولاً يدل على (الرحمة) والنعيم ثانياً, وذكر (التوبة) ثانياً يدل على (عدم التوبة) أولاً.

وجاء بعده الزمخشري (ت 538هـ) فقد وردت عنده إشارة واضحة إلى الإحتباك في تفسيره الكشاف عند وقوفه على قوله تعالى: ? وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? (يونس /107) بقوله: ((فإن قلت: لم ذكر المس في أحدهما والإرادة في الثاني قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير وأنه لا راد لما يريده منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الآخر ليدل بما ذكر على ما ترك)) (20) , وهذا من أول واهم الإشارات الواضحة على الإحتباك وذلك لأنَّه حذف من الأول (الإرادة) لدلالة الثاني عليه (يردك) , وحذف من الثاني (المس) لدلالة الأول عليه (يمسسك).

وجاء بعد صاحب الكشاف الرازي (ت 606هـ) وذكر عند تفسيره قوله تعالى: ? وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ? (غافر/ 41) أن معناها: ((أنا ادعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار)) (21) , وهذه الآية من الإحتباك لأنَّه ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولا دليلاً على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانياً , والنار ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير