تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالذي يجب عليه الاعتماد في هذا الفنّ، أن التوهُّم على ضربين: ضربٍ يستحكم حتى يبلُغ أن يصيرَ اعتقاداً، وضربٍ لا يبلغ ذلك المبلغ، ولكنه شيءٌ يجري في الخاطر، وأنت تعرف ذلك وتتصور وَزْنه إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشَبَهَ التامَّ؛ والشيئين يشبه أحدُهما بالآخر على ضرب من التقريب، فاعرفه، وأما الحشو فإنما كُرِهَ وذُمَّ وأُنْكر ورُدَّ، لأنه خلا من الفائدة، ولم يَحْلَ منه بعائدةٍ، ولو أفاد لم يكن حشواً، ولم يُدْعَ لغْواً، وقد تراه مع إطلاق هذا الاسم عليه واقعاً من القَبُول أحسنَ موقعَ، ومُدْركاً من الرّضَى أجزلَ حظّ، وذاك لإفادته إيَّاك، على مجيئه مجيءَ ما لا يعوّلَ في الإفادة عليه، ولا طائل للسامع لديه، فيكون مَثَلُه مَثَلَ الحَسَنةِ تَأتيك من حيث لم ترقبها، والنافعةِ أتتك ولم تحتسبها، وربّمَا رُزِقَ الطُّفَيْليُّ ظَرْفَاً يحظَى به حتى يحلَّ محلّ الأضياف الذين وقعَ الاحتشاد لهم، والأحباب الذين وُثِقَ بالأُنس منهم وبهم، وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع، فلا شبهة أنَّ الحُسْن والقُبْح لا يعترض الكلامَ بهما إلاّ من جهة المعاني خاصّةً، من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيبٌ، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيدٌ وتصويب، أما الاستعارة، فهي ضربٌ من التشبيه، ونَمَطٌ من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتُدركه العقول، وتُسْتَفتَى فيه الأفهامُ والأذهان، لا الأسماع والآذان، وأما التطبيق، فأمره أبينُ، وكونه معنوياً أجْلَى وأظهر، فهو مقابلة الشيء بضدِه، والتضادّ بين الألفاظ المركَّبة مُحال، وليس لأحكام المقابلة ثَمَّ مَجَال، فخذ إليكَ الآن بيت الفرزدق الذي يُضْرَب به المثل في تَعَسُّفِ اللفظ: ومَا مِثْلُهُ في الناسِ إلا مُمَلَّكَاً أبُو أمِّهِ حيٌّ أبوه يُقاربه

فانظر أتتَصَوَّر أن يكون ذلك للفظهِ من حيث إنّك أنكرتَ شيئاً، من حروفه، أو صادفتَ وحشيّاً غريباً، أو سُوقيّاً ضعيفاً؟ أم ليس إلاّ لأنه لم يُرَتَّب الألفاظ في الذكر، على مُوجب ترتيب المعاني في الفكر، فكدَّ وكَدَّر، ومنع السامع أن يفهم الغرضَ إلاّ بأنْ يُقدِّم ويؤخّر، ثم أسرفَ في إبطال النِّظام، وإبعاد المرَام، وصار كمن رَمَى بأجزاء تتألّف منها صورةٌ، ولكن بعد أن يُراجَعَ فيها باباً من الهندسة، لفرط ما عادَى بين أشكالها، وشدّةِ ما خَالف بين أوضاعها، وإذا وجدت ذلك أمراً بيِّنَاً لا يُعارضك فيه شكٌّ، ولا يملكك معه امتراءٌ، فانظر إلى الأشعار التي أَثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدَّماثة، وقالوا: كأنَّها الماءُ جَرَياناً، والهواءُ لُطفاً، والرياضُ حُسْناً، وكأنها النَّسِيم، وكأنها الرَّحيقُ مِزاجها التَّسْنِيم، وكأنها الديباج الخُسْرُوانيّ في مَرامي الأبصار، ووَشْيُ اليمَن منشوراً على أذْرُع التِّجَار، كقوله: ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ومَسَّح بالأركان مَنْ هو ماسحُ

وشُدَّت على دُهْم المهَارَى رِحَالُنا ولم يَنْظُر الغادي الَّذِي هو رائحُ

أخذْنا بأطراف الأحاديث بَيْنَنا وسَالَتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ

ثم راجعْ فكرتَك، واشْحَذْ بصيرتَك، وأحسِنِ التأمُّل، ودع عنك التجوُّز في الرأي، ثم انظر هل تجدُ لاستحسانهم وحَمْدهم وثَنائهم ومَدحهم مُنْصَرَفاً، إلاّ إلى استعارةٍ وقعت موقعَها، وأصابت غَرَضها، أو حُسن ترتيب تكاملَ معه البيانُ حتى وصلَ المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرَّ في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد، وشيءٍ داخَلَ المعاني المقصودَة مداخلةَ الطفيليّ الذي يستثقل مكانهُ، والأجنبيّ الذي يُكره حُضوره، وسلامتهِ من التقصير الذي يَفْتَقِر معه السامِعُ إلى تَطَلُّب زيادةٍ بقيت في نفس المتكلم، فلم يدلَّ عليها بلفظها الخاصّ بها، واعتمد دليلَ حالِ غير مُفْصِح، أو نيابةَ مذكورِ ليس لتلك النِّيابة بمُسْتَصْلَح، وذلك أن أوّل ما يتلقَّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولمَّا قضينا من مِنًى كلَّ حاجة" فعبّر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فُروضِها وسُنَنِها، من طريقٍ أمكنه أن يُقصِّر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبّه بقوله: "ومسّح

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير