تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

استعارة، لأن النثر في الأصل للأجسام الصغار، كالدراهم والدنانير والجواهر والحبوب ونحوها، لأن لها هيئةً مخصوصةً في التفرق لا تَأْتِي في الأجسام الكبار، ولأن القصد بالنثر أن تُجمَعُ أشياء في كفّ أو وِعاء، ثم يقع فعلٌ تتفرّق معه دَفْعَةً واحدةً، والأجسام الكبار لا يكون فيها ذلك، لكنه لمّا اتَّفق في الحرب تساقُطُ المنهزمين على غيرترتيب ونظام، كما يكون في الشيء المنثور، عبَّر عنه بالنثر، ونسب ذلك الفعل إلى الممدوح، إذْ كان هو سبب ذلك الانتثار، فالتفرُّق الذي هو حقيقة النثر من حيث جنس المعنى وعمومِه، موجودُ في المستعار له بلا شبهة، ويبيّنه أن النَّظم في الأصل لجمع الجواهر وما كان مثلها في السلوك، ثم لمّا حصل في الشَّخْصَين من الرجال أن يجمعهما الحاذِق المبدعُ في الطعن في رُمْحٍ واحد ذلك الضربَ من الجمع، عبَّر عنه بالنَّظم، كقولهم: انتظمها برمحه، وكقوله: قالوا وينظمُ فَارِسَيْن بطَعْنَةٍ

وكان ذلك استعارةً، لأن اللفظة وقعت في الأصل لما يُجْمع في السُّلوك من الحبوب والأجسام الصغار، إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تَخُصُّها في الغالب، وكان حصولها في أشخاص الرجال من النادر الذي لا يكاد يقع، وإلا فلو فرضنا أن يكثرَ وجودُه في الأشخاص الكبيرة، لكان لفظ النظم أصلاً وحقيقة فيها، كما يكون حقيقةً في نحو الحبوب، وهذا النحو لشدة الشَّبه فيه، يكاد يلحقُ بالحَقيقة، ومن هذا الحدِّ قوله: وفي يَدِكَ السَّيْف الَّذِي امتنعَتْ به صَفَاةُ الهُدَى من أَنْ تَرِقَّ فتُخْرَقَا

وذلك أن أصل الخَرْق أن يكون في الثوب، وهو في الصفاة استعارة، لأنه لمّا قال تَرِقَّ، قربت حالها من حالِ الثوب، وعلى ذلك فإنَّا نعلم أن الشق والصدع حقيقة في الصَّفاة، ونعلم أن الخرق يجامعهما في الجنس، لأن الكلَّ تفريقٌ وقطعٌ، ولو لم يكن الخرق والشق واحداً، لما قلت: شققتُ الثوبَ، والشَّق عيبٌ في الثوب، و تَشَقََّقَ الثوبُ قول من لا يستعير، ولكن لو قلتَ "خرق الحِشمة"، لم يكن من الحقيقة في شيء، وكان خارجاً من هذا الفن الذي نحن فيه، لأنه ليس هناك شق، ولو جاءَ شَقَّ الحِشمة أو صَدَعَ مثلاً، كان كذلك أعني لا يكون له أصلٌ في الحقيقة ولا شَبهٌ بها. ومن هذا الضرب قوله تعالى: "وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ" "سبأ:91" يُعَدُّ استعارةٌ من حيث إن التمزيق للثوب في أصل اللغة، إلا أنه على ذاك راجع إلى الحقيقة، من حيث إنه تفريق على كل حال، وليس بجنس غيره، إلاّ أنهم خصّوا ما كان مثل الثوب بالتمزيق، كما خصُّوه بالخرق، وإلا فأنت تعلم أن تمزيق الثوب تفريقُ بعضه من بعض، ومثله أن القطع إذا أطلق، فهو لإزالة الاتصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها، وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضه عن بعض، كقوله تعالى: "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً" "الأعراف:861"، كان شِبْهَ الاستعارة، وإن كان المعنى في الموضعين على إزالة الاجتماع ونَفْيهِ. فإن قلت: قطع عليه كلامَهُ، أو قلت: نَقْطَع الوقت بكذا، كان نوعاً آخر، ومن الاستعارة القريبة في الحقيقة قولهم: أَثْرَى فلانٌ من المجد، وَ أفلس من المروءة، وكقوله: إنْ كانَ أغْنَاها السلُوُّ، فإنَّني أَمْسَيْتُ من كَبِدِي ومِنْهَا مُعْدِمَا

وذلك أن حقيقة الإثراء من الشيء، كثرته عندك، ووصفُ الرجل بأنه كثير المجْد أو قليل المروءَة، كوصفه بأنه كثير العلم أو قليل المعرفة، في كونه حقيقة، وكذلك إذا قلت: أَثْرَى من الشوق أو الحُزْن كما قال: قَدْ وَقَفْنَا على الدِّيارِ وفي الرَّكْ بِ خَرِيبٌ من الغَرامِ ومُثْرِي

فهو كقولك: كَثُر شَوقُه وحزنُه وغرامُه، وإذا كان كذلك، فهو في أنه نُقل إلى شيء جِنْسُه جِنْسُ الذي هو حقيقةٌ فيه، بمنزلة طار، أو أظهرُ أمراً منه، وكذا معنى أعدَم من المال، أنه خلا منه، وأن المال يزول عنه فإذا أخبر أن كَبِدَه قد ذهبت عنه، فهو في حقيقةِ مَنْ ذهب ماله وعدِمَه، والعُدْم في المال وفي غير المال بمنزلة واحدة لا تتغيَّر له فائدة، و المُعْدَم موضوع لمن عَدِم ما يحتاج إليه، فالكبد مما يحتاج إليه، وكذلك المحبوبة، فإنما تقع هذه العبارة في نفسك موقع الغريب من حيث أن العُرف جَرَى في الإعدام بأن يُطلَق على من عَدِم ما جنسُهُ جنسُ المال، ويؤنّسك بما قلتُ، أنك لو قلت: عدم كبدَه، لم يكن مجازاً،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير