تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والعدمِ مرةً بالوجود، أمّا الأول: فعلى معنى أنه لما قَلَّ في المعاني التي بها يظهر للشيء قَدْرٌ، ويصير له ذِكْرٌ، صار وُجوده كلا وجود، وأمّا الثاني فعلى معنى أن الفاني كان موجوداً ثم فُقِد وعُدم، إلا أنه لما خلّف آثاراً جميلةً تُحيي ذكرَه، وتُديم في الناس اسمه، صار لذلك كأنه لم يُعدَم، وأما ما عدَاهما من الأوصاف فيجيء فيها طريقان: أحدهما: هذا وذلك في كلّ موضع كان موضوع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة، وإن كانت موجودة، لخلوِّها مما هو ثمرتها والمقصودُ منها، والذي إذا خَلَتْ منه لم تستحق الشَّرَف والفضلَ. تفسير هذا: أنك إذا وصفت الجاهل بأنه مّيت، وجعلت الجهل كأنه موتٌ، على معنى أن فائدة الحياة والمقصود منها هو العلم و الإحساس، فمتى عَدِمَهما الحيُّ فكأنه قد خرج عن حُكمْ الحيّ، ولذلك جُعل النَّوم موتاً، إذ كان النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميِّت،

والدرجة الأولى في هذا أن يقال: فلان لا يعقل و هو بهيمة و حمار وما أشبه ذلك، مما يحطُّه عن معاني المعرفة الشريفة، ثم أن يقال: فلان لا يعلم ولا يَفْقَهُ ولا يحسُّ، فيُنفَى عنه العلم والإحساس جملةً لضعف أمره فيه، وغلبة الجهل عليه، ثم يُجعَل التعريضُ تصريحاً فيقال: هو ميّتٌ خارجٌ من الحياة و هو جماد، توكيداً وتناهياً في إبعاده عن العلم والمعرفة، وتشدُّداً في الحكم بأنْ لا مطمع في انحسار غَيَاية الجهل عنه، وإفاقته مما به من سَكْرة الغيّ والغَفْلة وأن يُؤثِّر فيه الوعظ والتنبيهُ، ثم لما كان هذا مستقراً في العادة، أعني جَعْلَ الجاهِل ميِّتاً، خرج منه أن يكون المستحقُّ لصفة الحياة هو العالمَ المتيقظ لوَجْه الرُّشد، ثم لمّا لم يكن علمٌ أشرف وأعلى من العِلم بوحدانية اللّه تعالى، وبما نزّله على النبيّ صلى الله عليه وسلم، جُعل من حصل له هذا العلم بعد أن لم يكن، كأنه وَجَد الحياة وصارت صفةً له، مع وجود نور الإيمان في قلبه، وجُعل حالته السابقةُ التي خلا فيها من الإيمان كحالة الموت التي تُعدَم معه الحياة، وذلك قوله تعالى: "أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ" "الأنعام:221"، وأشباه ذلك، من هذا الباب قولهم: فلان حيٌّ و حيُّ القلب يريدون أنه ثاقبُ الفهم جيِّد النظر، مستعدٌّ لتمييز الحق من الباطل فيما يَرِد عليه، بعيدٌ من الغفلة التي كالموت ويذهبون به في وجه آخر، وهو أنه حَرِكٌ نافذٌ في الأمورِ غيرُ بطيءِ النهوض وذلك أن هذه الأوصاف من أمارات الصحة واعتدال المزاج وتوقُّد نار الحياة، وهذا يصلح في الإنسان والبهيمة، لأنه تعريض بالقدرة والقوة، والمذهب الأول إشارة في العلم والعقل، وكلتا الصفتين أعني القدرة والعلم مما يشرف به الحيُّ، ومما يضادُّه الموتُ وينافيه، ولما كان الأمْرُ كذلك صار إطلاق الحياة مرة عبارةً عن العلم، وأخرى عن القدرة وإطلاقُ الموت إشارةً إلى عدم القدرة وضعفها تارةً، وإلى عدم العلم وضعفه أخرى، والقول الجامع في هذا: أنّ تنزيلَ الوُجود منزلة العدَم إذا أريد المبالغة في حطّ الشيء والوَضْع منه وخروجِه عن أن يُعتدَّ به، كقولهم: هو والعدم سواء معروفٌ متمكن في العادات، وربما دعاهم الإيغال وحُبُّ السَّرَف إلى أن يطلبوا بعد العدم منزلةً هي أدْوَن منه، حتى يقعُوا في ضرب من التهوّس، كقول أبي تمام: وأنت أنْزَرُ من لا شيءَ في العددِ

وقال ابن نُبَاتَةَ: مازِلْتُ أعطِفُ أيَّامِي فتمنَحُني نَيلاً أدَقَّ من المعدومِ في العدَمِ

ويتفرع على هذا إثبات الفضيلة للمذكور بإثبات اسم الشيء له، ويكون ذلك على وجهين:

أحدهما: أن تريد المدحَ وإثباتَ المَزِيَّة والفضل على غاية المبالغة، حتى لا تحصل عليه مزيداً، فإذا أردتَ ذلك جعلتَ الإثبات كأنه مقصور عليه لا يُشارَك فيه، وذلك قولك: هذا هو الشيء وما عداه فليس بشيءٍ، أي: إن ما عداه إذا قيس إليه صَغُر وحَقُر حتى لا يدخل في اعتداد، وحتى يكونَ وِجْدَانه كفِقْدَانهُ، فقد نزّلت الوجود فيمن عدا المذكور منزلةَ العدم، وأما أن يكون التفضيل على توسُّط، ويكون القصدُ الإخبار بأنه غير ناقص على الجملة، ولا مُلْغًى منزَّل منزلةَ المعدوم، وذلك قولك: هذا شيءٌ، أي: داخل في الاعتداد، وفي هذه الطريقة أيضاً تفاوُتٌ، فإنك تقول مرةً: هذا إمَّا لا، شيءٌ، تريد أن تقول: إن الآخر ليس بشىء ولا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير