تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا يفيد أنّ للسُّؤَال ضدّاً ينافي الموت أو يضادّه على الحقيقة، وأن هذا القائل قصد بجعل السؤال موتاً نَفْىَ ذلك الضدّ، وأن يُؤْيِس من وجوده وحصوله، بل أراد أن في السؤال كراهة ومرارةً مثل ما في الموت، وأن نفس الحرّ تنفِرُ عنه كما تنفر نفوسُ الحيوان جملةً من الموت، وتطلبُ الحياةَ ما أمكن في الخلاص منه، فإن قلتَ: المعنى فيه أن السؤال يَكْسِب الذُلَّ ويَنْفي العِزَّ، والذليلُ كالميت لفقد القدرة والتصرّف، فصار كتسميتهم خُمول الذكر موتاً، والذكرَ بعد الموت حياةً، كما قال أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه: مات خُزَّان المالِ، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مَفْقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، قلتُ: إني آنَسُ أنهم لم يقصدوا هذا المعنى في السؤال، وإنما أرادوا الكراهة، ولذلك قال بعد البيت الذي كتبته: كِلاَهما موتٌ، ولكنَّ ذَا أشدُّ مِنْ ذاك لذُلّ السُّؤالْ

هذا وليس كل ما يعبِّر عنه بالموت لأنه يُكْرَه ويَصْعُب ولا يستسلم له العاقل إلاّ بعدَ أن تُعْوِزَه الحِيَلُ فإنه يُحْمل هذا المَحْمَل، وينقادُ لهذا التأويل، أترى المتنبي في قوله: وقد مُتّ أمْسِ بها مَوْتَةً ولا يَشْتَهِي الموتَ مَنْ ذَاقَهُ

أراد شيئاً غير أنه لقي شِدّةً، وأمَّا العبارة عن خمول الذكر بالموت، فإنه وإن كان يدخل في تنزيل الوجود منزلة العدم، من حيث يقال: إن الخامل لمّا لم يُذكَر ولم يَبِنْ منه ما يُتحدَّث به، صار كالميت الذي لا يكون منه قولٌ، بل ولا فعل يدلُّ على وجوده فليس دخوله فيه ذلك الدخولَ، وذلك أن الجهل يُنافي العلم ويضادُّه كما لا يخفى، والعلم إذا وُجد فَقَدْ وُجدت الحياةُ حَتْمَاً واجباً، وليس كذلك خمولُ الذكر والذكرُ، لأنه ليس إذا وُجد الذكرُ فقد وُجدت الحياة، لأنك تُحدِّث عن الميت بأفعاله التي كانت منه في حال الحياة، فيَتَصَوَّر الذكرُ ولا حياة على الحقيقة، ولا يُتَصَوَّر العلم ولا حياة على الحقيقة. وهكذا القول في الطرف الآخر، وهو تسميةُ مَنْ لا يَعلم ميّتاً، وذلك أن الموت ها هنا عبارة عن عَدَم العلم وانتفائه، وعدم العلم على الإطلاق، حتى لا يوجد منه شيء أصلاً، وحتى لا يصحّ وجوده، يقتضي وجود الموت على الحقيقة ولا يمكن أن يقال إنّ خمولَ الذكر يوجب الموت على الحقيقة، فأنت إذن في هذا تُنزّل الوجود منزلةَ العدم على وجهٍ لا ينصرف إلى الحقيقة ولا يصير إليها،، وإنما يُمثَّل ويُخيَّل، وأما في الضرب الأول وهو جعلُ من لا يعلم ميِّتاً ومن يعَلم هو الحيّ فإنك تلاحظ الحقيقة وتشير إليها وتحطِب في حَبْلها فاعرفه. وأمَّا قولهم في الغنيّ إذا كان بخيلاً لا ينتفع بماله: إنّ غناه فقر، فهو في الضرب الأول أعني تنزيلَ الوجود منزلة العدم لتعرّى الوجود مما هو المقصود منه، وذلك أن المال لا يُراد لذاته، وإنما يُراد للانتفاع به في الوجوه التي تعدُّها العقلاء انتفاعاً، فإذا حُرم مالكه هذه الجدوى وهذه الفائدة، فملْكُه له وعدم الملك سواء، والغِنَي إذا صُرف إلى المال، فلا معنى له سوى مِلْك الإنسان الشيء الكثير منه، ألا تراه يُذكَر مع الثروة فيقال: غنيٌّ مُثْرٍ مُكثر؟ فإذا تبين بالعلة التي مضت أنه لا يستفيد بمِلْكه هذا المالَ معنًى، وأن لا طائل له فيه، فقد ثبت أن غِناه والفقرَ سواء، لأن الفقر أن لا يملك المال الكثير، وأمّا قول اللُؤَماء: إن انتفاعه في اعتقاده أنَّه متى شاء انتفع به، وما يجد في نفسه من عزّة الاستظهار، وأنه يُهاب ويُكْرم من أجله، فمن أضاليل المُنَى، وقد يُهان ويُذَّلُّ ويُعَذَّب بسببه حتى تُنْزَع الروح دونه، ثم إن هذا كلامٌ وضعه العقلاء الذين عرفوا ما الانتفاع، وهذا المخالفُ لا يُنكر أن الانتفاع لو عُدم كان مِلكه الآن لمالٍ وعَدَمُ ملكه سواءٌ، وإنما جاء يتطلّب عُذْراً، ويُرخِي دون لُؤْمه سِتْراً، ونظير هذا أنك ترى الظالم المجترئ على الأفعال القبيحة، يدّعي لنفسه الفضيلة بأنه مَدِيد الباع طويلُ اليد، وأنه قادرٌ على أن يُلجئ غيره إلى التَّطامن له، ثم لا يزيده احتجاجُه إلا خِزْياً وذُلاً عند اللّه وعند الناس، وترى المصدِّق له في دعواه أذَمَّ له وأهجى من المكذِّب، لأن الذي صدّقه أيِسَ من أن ينزع إلى الإنسانية بحالٍ، والذي كذَّب رجَا أن ينزع عند التنبيه والكشف عن صورة القبيح، وأما قولهم في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير