تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اعلم أن الشيئين إذا شُبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين أحدهما أن يكون من جهة أمرٍ بيّنٍ لا يحتاج إلى تأوّل، والآخر أن يكون الشبه محصّلاً بضرب من التأوّل، فمثال الأول: تشبيهُ الشيّ بالشيء من جهة الصُّورة والشكل، نحو أن يشبَّه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه، وبالحلقة في وجه آخر وكالتشبيه من جهة اللّون، كتشبيه الخدود بالورد، والشَعر بالليل، والوجه بالنهار، وتشبيه سِقْط النار بعين الديك، وما جرى في هذا الطريق أو جمع الصُّورة واللون معاً، كتشبيه الثُّريّا بعنقود الكَرْم المنوَّر، والنرجس بمَدَاهن دُرٍّ حشُوهن عقيق، وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو: أنه مستوٍ منتصبٌ مديدٌ، كتشبيه قامة الرَّجل بالرمح، والقَدِّ اللطيفِ بالغصن ويدخل في الهيئةِ حالُ الحركات في أجسامها، كتشبيه الذاهب على الاستقامة بالسَّهم السديد، ومَنْ تأخذه الأريحيّةُ فَيهتزُّ بالغصن تحت البارح، ونحو ذلك وكذلك كل تشبيهٍ جَمَعَ بين شيئين فيما يدخل تحت الحواسّ، نحو تشبيهك صوتَ بعض الأشياء بصوت غيره، كتشبيه أطيطِ الرحل بأصوات الفراريج، كما قال: كأنّ أصواتَ، من إيغالهنّ بنا أواخرِ المَيْس إنقاضُ الفَرَاريج

تقدير البيت كأن أصوات أواخر الميس أصواتَ الفراريج من إيغالهن بنا ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله: من إيغالهن وكتشبيه صَرِيف أنياب البعير بصياح البوازي، كما قال: كأنَّ عَلَى أنيابها سُحْرَةٍ صِياحَ البَوازي من صَرِيف اللَّوَائِك

وأشباه ذلك من الأصوات المشبهة له وكتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسَل والسُكَّر وتشبيهِ اللِّين الناعم بالخزِّ، والخشن بالمِسْحِ، أو رائحةِ بعض الرياحين برائحة الكافور أو رائحة بعضها ببعضٍ كما لا يخفى، وهكذا التشبيه من جهة الغريزة والطباع، كتشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة، وبالذئب في النُكْر، والأخلاقُ كلُّها تدخُل في الغريزةُ نحو السَّخاء والكرمَ واللؤم، وكذلك تشبيه الرجل بالرجل في الشدة والقوة وما يتصل بهما، فالشبه في هذا كلّه بَيّنٌ لا يجري فيه التأوُّل، ولا يُفتقَر إليه في تحصيله، وأيُّ تأوُّل يجري في مشابهة الخدّ للورد في الحمرة، وأنت تراها ها هنا كما تراها هناك؟ وكذلك تعلم الشَّجاعة في الأسد كا تعلمها في الرجل، ومثالُ الثاني: وهو أشبه الذي يَحْصُل بضرب من التأوُّل، كقولك: هذه حُجّةٌ كالشمس في الظهور، وقد شبّهت الحجةَ بالشمس من جهة ظهورها، كما شبَّهتَ فيما مَضَى الشيء بالشيء من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما، إلا أنك تعلمَ أن هذا التشبيه لا يتمّ لكَ إلا بتأوُّل، وذلك أن تقول: حقيقة ظُهور الشمس وغيرها من الأجسام أنْ لا يكون دونها حجابٌ ونحوُه، مما يحول بين العين وبين رؤيتها، ولذلك يظهر الشيءُ لك إذا لم يكن بينك وبينه حجابٌ، ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب، ثم تقول: إن الشُبهة نظير الحجاب فيما يُدرَك بالعقول، لأنها تمنع القلب رؤيةَ ما هي شُبهة فيه، كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه، ولذلك تُوصف الشُبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلبُ إدراكه، ويَصْرف فكرَه للوصول إليه من صحّةِ حكمِ أو فساده، فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجّة على صحّة ما ادُّعي من الحكم قيل: هذا ظاهرٌ كالشمس، أي ليس ها هنا مانعٌ عن العلم به، لا للتوقف والشكّ فيه مَسَاغٌ، وأنَّ المنكرَ له إمَّا مدخولٌ في عقله أو جاحدٌ مُباهتٌ، ومُسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يَشكُّ فيها ذو بصرٍ، ولا ينكرها إلاّ مَنْ لا عذر له في إنكاره، فقد احتجتَ في تحصيل الشبه الذي أَثبته بين الحجّة والشمس إلى مثل هذا التأوّل كما ترى. ثم إنّ ما طريقُه التأوُّل يتفاوت تفاوتاً شديداً، فمنه ما يقربُ مأخذُه ويسهُل الوصول إليه، ويُعطَى المَقَادةَ طوعاً، حتى إنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك ومنه ما يُحتاج فيه إلى قدر من التأمّل، ومنه ما يدقُّ ويغمُض حتى يُحتاج في استخراجه إلى فضل رويّةٍ ولُطْفِ فكرةٍ. فمما يُشبه الذي بدأتُ به في قُرب المأخذ وسهولة المأتى، قوله في صفة الكلام: ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرٍّقة، وكالعسل في الحلاوة، يريدون أن اللفظ لا يستغلِق ولا يشتبه معناه ولا يصعُب الوُقوف عليه، وليس هو بغريب وَحْشيّ يُستكرَه، لكونه غيرَ مألوف، أو ليس في حروفه تكريرٌ وتنافرٌ يُكَدُّ اللسانُ من أجلهما، فصارت لذلك كالماء الذي يسوغُ في الحلق، والنسيم يسري في البدن، ويتخلَّل المسالك اللطيفة منه، ويُهدي إلى القلب رَوْحاً، ويُوجد في الصدر انشراحاً، ويُفيد النفس نشاطاً، وكالعسل الذي يَلَذُّ طعمه، وتَهِشُّ النفس له، ويميل الطبع إليه، ويُحَبُّ ورودُه عليه، فهذا كله تأوّلٌ، وردُّ شيء إلى شيء بِضربٍ من التلطف، وهو أدخل قليلاً في حقيقة التأوّل، وأقوى حالاً في الحاجة إليه، من تشبيه الحجّة بالشمس، وأما ما تقوَى فيه الحاجة إلى التأوُّل حتى لا يُعرَف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع، فنحو قول كَعْبٍ الأشقريّّ، وقد أوفده المهَلَّب على الحجّاج، فوصف له بنيه وذكر مكانهم من الفضل والبأس، فسأله في آخر القصّة قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حُماة السَرْح نهاراً، فإذا أليَْلُوا ففرسان البَيَات، قال: فأيُّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلْقة المفرغة لا يُدرَى أين طَرَفاها، فهذا كما ترى ظاهر الأمر في فَقْره إلى فضل الرِّفق به والنظر، ألا ترى أنه لا يفهمه حقَّ فَهْمه إلا من له ذهن ونَظَرٌ يرتفع به عن طبقة العامّة؛ وليس كذلك تشبيه الحجّة بالشمس، فإنه كالمشتركِ البَيّن الاشتراك، حتى يستوي في معرفته، اللبيبُ واليقِظُ والمضعوفُ المغفَّل، وهكذا تشبيه الألفاظ بما ذكرت، قد تجده في كلام العامي. فأمَّا ما كان مذهبه في اللُّطف مذهبَ

قوله: هم كالحلقة، فلا تراه إلا في الآداب والحِكَم المأثورة عن الفضلاء وذوِي العقول الكاملة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير