فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة, تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع. لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار, فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها, هو الخاطر الأول, المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود .. وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر .. ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل, الخاشع الواجف الراجف المنيب, ذي النغم العذب, والإيقاع المنساب, والحرارة البادية في المقاطع والأنغام!
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار .. لا بد من وقفة أمام قولهم:
? رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?192?? ..
إنها تشي بأن خوفهم من النار, إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار. وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار. فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله, فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله, وأن الظالمين ما لهم من أنصار ..
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل:
? رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ?193?? ..
فهي قلوب مفتوحة; ما إن تتلقى حتى تستجيب. وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة, فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها, فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات, والوفاة مع الأبرار.
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها, في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية, في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة. المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان, مع أعداء الله وأعداء الإيمان .. والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال.
وختام هذا الدعاء. توجه ورجاء. واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
? رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ?194??
فهو استنجاز لوعد الله, الذي بلغته الرسل, وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد, ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة, يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء, ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي, وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه. مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله.
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة, لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه, في القلوب السليمة المفتوحة ..
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء, من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء ..
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر, فيه ليست حرفا متحدا, ولكنها إيقاع متشابه - مثل:"بصير. حكيم. مبين. مريب" .. "الألباب, الأبصار, النار. قرار" .. "خفيا. شقيا. شرقيا. شيئا. " ... إلخ.
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير. والثانية في مواضع الدعاء. والثالثة في مواضع الحكاية.
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى. ولم تبعد عنها إلا في موضعين: أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء. والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد ..
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني .. فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية, وعذوبة صوتية. تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال. وهناك ظاهرة فنية أخرى .. إن عرض هذا المشهد: مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض, واختلاف الليل والنهار, يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم, عميق النبرات. فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته, على الأعصاب والأسماع والخيال, فيؤثر في الوجدان, بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف .. وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني, ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته.
ـ[أم الليث]ــــــــ[10 - 08 - 07, 10:56 م]ـ
جزاك الله خيرا على ما أتحفتنا من فوائد
أسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتك غدا
ـ[أحمد يخلف]ــــــــ[10 - 08 - 07, 11:59 م]ـ
آمين اختي الكريمة ونحن ممن يستفيد منكم ومن مواضيعكم القيمة