وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: ? قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ? .. وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .. فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة, ويجعله جانبا من مشهد الذكر .. فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين.
الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق الله, والتدبر في كتاب الكون المفتوح, وتتبع يد الله المبدعة, وهي تحرك هذا الكون, وتقلب صفحات هذا الكتاب .. هو عبادة لله من صميم العبادة, وذكر لله من صميم الذكر. ولو اتصلت العلوم الكونية, التي تبحث في تصميم الكون, وفي نواميسه وسننه, وفي قواه ومدخراته, وفي أسراره وطاقاته .. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره, والشعور بجلاله وفضله. لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة. ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله. ولكن الاتجاه المادي الكافر, يقطع ما بين الكون وخالقه, ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية; ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان, وتحيل حياته إلى جحيم منكرة, وإلى حياة قلقة مهددة, وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!
والحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون, لا تتجلى على حقيقتها الموحية, إلا للقلوب الذاكرة العابدة. وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار, وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح .. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا, ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار, ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد, وإلى قلق خانق. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!
فهما أمران متلازمان, تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال.
إنها لحظة تمثل صفاء القلب, وشفافية الروح, وتفتح الإدراك, واستعداده للتلقي. كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع ..
إنها لحظة العبادة. وهي بهذا الوصف لحظة اتصال, ولحظة استقبال. فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار, ملهما للحقيقة الكامنة فيها, ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا. ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة, للخطة الواصلة.
? ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ? ..
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا. ولكن ليكون حقا. الحق قوامه. والحق قانونه. والحق أصيل فيه. إن لهذا الكون حقيقة, فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات! وهو يسير وفق ناموس, فليس متروكا للفوضى. وهو يمضي لغاية, فليس متروكا للمصادقة. وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل.
هذه هي اللمسة الأولى, التي تمس قلوب [أولي الألباب] من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال. وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون, فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:
? رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ? ..
ثم تتوالى الحركات النفسية, تجاه لمسات الكون وإيحاءاته.
? فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?191? رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?192??
فما العلاقة الوجدانية, بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق, وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره, معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا, وأن هناك حكمة وغاية, وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب. ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال. ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء.
¥