ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[08 - 08 - 07, 08:32 م]ـ
62
إلا في صورة واحدة وهي إذا تقدم لفظ (كل) مضافا إلى مفرد مثل: كل رجل لم يقم، فإنه يتوجه إلى الإفراد دون الشمول، بخلاف ما لو قدم النفي، فقلنا: لم يقم كل رجل، فإنه ينصرف إلى الشمول، ولا يدل على انتفاء المجيء عن كل فرد، وقد اضطرب صاحب التلخيص في الفرق بينهما، وتوهم بعضهم أن العلة مجرد تقديم المسند إليه وتأخير النفي، وليس كذلك فإنك لو قدمته وجعلته جمعا لانصرف إلى الشمول كقولنا: كل الرجال لم يقوموا، وإنما هو عرف لغوي مقيد بقيدين: أحدهما تقديم المسند إليه وثانيهما إفراده مؤكدا بكل.
وأحسن ما وجه به أنه حينئذ نفي لفعل الكل، أي لفعل كل واحد وقولنا: لم يقم كل أحد نفي الكل عن الفعل، وهذا الثاني هو الذي دل عليه الباب لم يخرج منه إلا تلك الصورة الواحدة وجميع الأمثلة وإن كررت من هذه الصورة كقوله ? كل ذلك لم يكن
وقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ........... علي ذنبا كله لم أصنع
برفع كل ولو نصب انصرف إلى الشمول كأنه يخص المبتدأ والخبر
وكذلك يجب إفراد الخبر من قولنا كل رجل قائم، ويمتنع قائمون وهو يحتمل زيادة في النظر والله الفتاح ومنه:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ........... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ومنه ما جاء القوم كلهم ولم آخذ كل الدراهم وكل الدراهم لم آخذ، النفي فيه متوجه إلى الشمول خاصة، كما قاله عبد القاهر، وقولنا: ما جاء القوم كلهم مما نص عليه عبد القاهر وهو / نظير قولي (لا العرض) متى كان بمعنى الأعراض كلها إلا أني لم أؤكده بكل، وكل في هذا الموضع للتوكيد لا للتأسيس قطعا وفاقا لأنها متأخرة فلا يخل سقوطها بمعنى ما قبلها ولا يغيره بدخولها.
63
ويوضح ما ذكرت أنك إذا قلت في النفي: ما جاء رجل أفاد العموم، فإذا جعلت الرجال موضع رجل تغير المعنى، فيتغير العموم، وقد ذكره مختار في المجتبى وقال: هو مثل ما جاء عشرة رجال لا يفيد مجيء التسعة فما دونها وأجاب عن قوله {لا تدركه الأبصار} بأن العموم مستفاد من معنى المدح كقولنا: فلان لا يفعل القبائح فإنه يعلم من معنى المدح أنه لا يراد أن يفعل بعضها.
64
فجعلت دليل المعجزات أقرب وأقوى وأجلى وأقطع للحجاج وأولى، كما اعتمدها إن شاء الله تعالى عند القصد إلى إفحام الخصوم / وقطع اللجاج، وكذلك الاستدلال بما في هذا العالم من عجائب المصنوعات وغرائب المخلوقات، وما في جميعها من الإحكام والإتقان المعلوم بالفطر حاجته إلى صانع أحكمه وعليم قدره، وهذان الطريقان صحيحان، أما الاستدلال بالمعجز فلا أعلم فيه خلافا، وأما الاستدلال بالأجسام من جهة الإحكام فكذلك لا أعلم وجها للخلاف فيه، إلا أن في عبارة ابن متويه إشعارا بخلاف أبي هاشم وحده في ذلك وما هو عندي بصحيح عنه إن شاء الله تعالى، كما دل عليه ابن متوية في أوائل المحيط
66
وإذا جاز الخطأ على أبي علي فيما يقطع فيه أنه من المشاهدات وعلى أبي هاشم فيما كان يقطع على أنه من الضروريات فالخطأ عليهما في الاستدلاليات الخفيات أقرب، وحصر الطرق إلى الله تعالى في هذا الأمر الخفي أغرب وأعجب، وليس القصد بهذا خفضي رفيع منزلتهما ولا القدح في عظيم علمهما، وإنما القصد أمران: تهوين أمر المخالفة في هذه الدقائق على السائل، وأن المخالف فيها جدير أن يسلك به مسالك من تقدمه من المختلفين في هذه المسائل في تطلب وجوه المحامل وأن لا يخص بذلك الأوائل، وثانيهما أن لا يرجحا على جميع من خالفهما من الأئمة وعلماء الأمة، ولا تغتر بكثرة مقلديهما في هذه البلاد ممن ادعى أنه لا يقلد في الاعتقاد، وهو لهما أو لأحدهما أو لمن لا يساوي آثارهما أتبع من الظل وأطوع من النعل، بل كيف لنا أن لا نعارض بهما رحمهما الله الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام والبراهين العظام، وما أشد كراهتهما لذلك وللسالكين هذه المسالك، فلو اقتدى بهما مقلدوهما ما قلدوهما، ولو لم يقلدوهما لاختلفوا كما اختلفا، وتحيروا وترددوا كما تحيرا وترددا، على ما جرت به العوائد في أحوال الخائضين في هذه الدقائق، والله أعلم.
74
¥