فالرجل مؤمن بالله أولا ثم يستبعد الإرجاع ..
- {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يس79
فلو أن المشرك هنا لا يسلم بوجود" الذي أنشاها أول مرة" لما أقام عليه القرآن حجة!!
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة258
فالكافر "بهت" لأنه لا يستطيع ردا على الدعوى، وما الدعوى إلا قول إمام الموحدين
"فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ" وقد تضمنت إثبات ربوبية عامة معهودة عند الجميع وإثبات فعل خاص مشاهد من قبل الجميع .. ولو كان هذا الكافر منكرا للربوبية لما بهت،فإن أي شخص في هذا المقام سيقول على البديهة:
"أثبت العرش وانقش"!
لاسيما وأن الملاحدة في كل زمان رؤوسهم صلبة وألسنتهم طويلة اللجاج!!
فكيف يرضى هذا الكافر بالانقطاع في المناظرة تحت أنظار قومه إلا إذا كانت حجة الخليل عليه السلام بديهية عند الجميع بحيث يكون المراء فيها دليلا على مكابرة بادية للعيان!
خلاصة الوجه أن القرآن الحكيم ربط البعث بالصفات العليا،ولأن قدرة الله تتعلق بالممكنات فقد برهن بجلاء على أن البعث ممكن لا بالإمكان العقلي فحسب بل بالإمكان الواقعي أيضا. ثم عزر البرهنة بقياس الأولى تثبيتا لجهة الإمكان:
إن سلمتم أن الله أنشأ النشأة الأولى فلا بد من التسليم بالنشأة الثانية:
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الروم27
فالصانع يسهل عليه دائما إعادة الصنع بما اكتسبه من خبرة وتجربة وممارسة .. ولله المثل الأعلى!!!
....... أم بياني:
لكن لاستدلال القرآن على البعث وجها آخر لا يقل بهاء وقوة:
هو الوجه البياني ومقصده: "الاستئناس بالبعث".
وهذا ما يذهل في القرآن حقا: فأنت تجد الآية الواحدة ينبعث منها في وقت واحد خطابان: خطاب في اتجاه العقل وآخر في اتجاه العاطفة،فلا ينتهي المرء من تدبرها إلا وقد حصل له الرضى حسا وفكرا ...
ففي موضوعنا يتملى العقل بجمال القياس، كما يتملى الخيال بلطف الاستئناس ...
ولبيان هذا نحتاج إلى استحضار التفاصيل لأن العاطفة لا تمارس نشاطها إلا حيث تتناسل الجزئيات ..
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ {7}
واضح أن القاعدة البيانية للآيات هي "التمثيل":
تمثيل الصورة الغائبة بالصورة الحاضرة ... ويحتاج المتدبر للعين والخيال لكي يدرك تفاصيل الصورة بعمق، ولو نجح في ذلك لرأى البعث رأي العين!!
-أولا:
لا بد من ملاحظة بؤرتين بيانيتين متماثلتين:
-"فِي الْأَرْحَامِ"
-"فِي الْقُبُورِ"
وبلاغة القرآن تعقد المماثلة بين البؤرتين بواسطة توظيف فعل "الخروج" تعبيرا عن الولادة والبعث معا:
" ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً"
¥