ثانيها: إنّ الجازم هو الطلب ناب مناب الشرط، لا على جهة التضمين، بل على جهة أنّ هذه الأشياء من أنواع الطلب قد نابت مناب الشرط؛ بمعنى أن جملة الشرط قد حذفت، وأنيبت هذه منابها في العمل، ونظيره قولهم: " ضرْباً زيداً "؛ فإنّ " ضرْباً " ناب عن "اضربْ " فنصب " زيداً "، لا أنّه ضمن المصدر معنى فعل الأمر، بل ذلك على طريق النيابة.
وهذا مذهب الفارسيّ (26)، وابن عصفور (27)، ونسبه أكثر النحويين إلى السيرافي (28).
ورُدّ هذا القول بالاعتراضات الآتية (29):
1 - إن نائب الشيء يؤدي معناه، والطلب لا يؤدي معنى الشرط؛ إذ لا تعليق في الطلب بخلاف الشرط.
2 - إنّ الأرجح في " ضرْباً زيداً " أنّه منصوب بالفعل المحذوف لا بالمصدر؛ لعدم حلوله محل فعل مقرون بحرف مصدري.
ثالثها: إن الجازم هو شرط مقدر دلّ عليه الطلب، وذهب إليه أكثر المتأخرين، واختاره أبو حيّان (30)، ورجّحه خالد الأزهريّ (31) وزعم أنه مذهب الخليل، وسيبوية، والسيرافي, والفارسي، إلاّ أنّهم اختلفوا في علته؛ " فقال الخليل وسيبويه: إنما جَزَمَ الطلب لتضمنه معنى حرف الشرط، كما أنّ أسماء الشرط إنما جَزَمتْ لذلك. وقال الفارسي والسيرافي: لنيابته مناب الجازم الذي هو حرف الشرط المقدر … .. " (32).
مما سبق نجد أنّ المذاهب الثلاثة تدور حول مصطلحات ثلاثة: " التقدير، والتضمين، والنيابة "؛ فهل الجازم هو:
1 - شرط مقدر بعد الطلب؟ " وهو المذهب الثالث "
2 - أم الطلب الذي تضمن معنى الشرط؟ " وهو المذهب الأول "
3 - أم الطلب الذي ناب مناب الشرط؟ " وهو المذهب الثانى
ولا يخفى ما في نسبه هذه المذاهب إلى كلٍّ من الخليل، وسيبويه، والسيرافي، والفارسي، من اضطرابٍ؛ فقد نُسب إلى الخليل، وسيبويه المذهب الأوّل وهو " التضمين "، كما نُسب إليهما المذهب الثالث وهو " التقدير ". ونُسب إلى السيرافيّ، والفارسي المذهب الثاني، وهو " النيابة "، كما نسب إليهما - أيضاً - المذهب الثالث وهو " التقدير ".
وللوقوف على الحقيقة لابدّ من ذكْر كلامِ كلِّ واحدٍ منهم بنصّه، قال سيبويه (33): " وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب " إن تأتني " بإن تأتني؛ لأنهم جعلوه معلقاً بالأول غير مستغن عنه - إذا أرادوا الجزاء - كما أنّ " إنْ تأتني " غير مستغنية عن " آتك ".
وزعم الخليل: أنّ هذه الأوائل كلها فيها معنى " إنْ " فلذلك انجزم الجواب ……".
فكلام سيبويه يحتمل أن يكون الجازم " إنْ والفعل " أي: شرط مقدر، ويحتمل أن يكون الجازم الطلب تضمن معنى الشرط المقدر، أو الطلب ناب مناب الشرط المقدر، فهو يحتمل المذاهب الثلاثة.
وقوله: " وزعم الخليل " قد يشير إلى أن ثمة اختلافًا بين مذهبيهما.
وكلام الخليل يحتمل - أيضاً - المذاهب الثلاثة؛ فقوله: " إن هذه الأوائل فيها معنى إنْ " يحتمل أنّها تضمنت معنى " إنْ "، كما يحتمل انها نابت مناب " إنْ " ودلت على معناها. وقوله: " فيها معنى إنْ " يدل على أنّ الشرط ملحوظ مقدّر، إمّا على جهة التضمين، أو النيابة. فالتقدير، والتضمين، والنيابة محتمَلة في كلامه.
أما قول السيرافي (34) " جُزِمَ جواب الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض بإضمار شرط في ذلك كله0000 ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى، والذي يكشفه الشرط، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء ".
فقوله: " بإضمار شرط في ذلك كله " يدل على أن الجازم هو الشرط المضمر في الطلب إمّا على جهة التضمين أو النيابة؛ لأنه يدل على معناه. وقوله: " فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " يقطع بأن يكون الجازم هو الشرط المقدر.
أما قول الفارسي في (الإيضاح) (35): " وقد يحذف الشرط في مواضع فلا يؤتى به لدلالة ما ذكر عليه، وتلك المواضع: الأمر، والنهي 0000 "؛ فيدل على أن الجازم شرط مقدر محذوف، كما أنه قد يدل على أن الجازم الطلب الذي تضمن الشرط ودل عليه، أو الطلب الذي دل على الشرط فناب عنه؛ فاحتمل كلامه - أيضاً - المذاهب الثلاثة، ولا يبعد عنه ما جاء في (المسائل المنثورة) (36).
¥