وليس حمل قراءة الحسن على ما ذهب إليه الجمهور - على جودته - بمانع من أن تحمل على ما ذهب إليه الكسائي؛ فهو أيضاً جيّد في أداء المعنى.
وإجازة هذا على قلة، وللقادر على التمييز بين دلالات التراكيب، ولا مانع عندئذ من الحمل عليه عندما يكون الحمل عليه أولى.
وفي تقديرِ الشرطِ بعدَ الطَّلَبِ، وعدمِ اشتراطِ تقديرٍ مُعيَّنٍ فوائد عديدة منها:
1 - المحافظة على صيغة الطلب الذي هو أساس المعنى، وعدم اطراحه، أو تحويله عن وجهته.
2 - إبراز المعنى الإضافي الآخر الذي تضمنه الكلام ودلَّ عليه الطلب والجواب، وهو الشرط المقدر.
3 - اطّراد القاعدة في جميع أساليب الطلب، ومعاملتها معاملة واحدة من حيث ذكر أداة الطلب أولاً وعدم إعادتها في الجملة الشرطية المقدرة.
4 - الاحتفاظ بالحركة الإعرابية للفعل الطلبي، وبمكونات تركيب جملة الطلب؛ لأن حركة الفعل ستتغير بدخول " إنْ " الشرطية عليه.
ومثالٌ على ما سبق فإن جملة: " ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً " إذا قُدِّرَ الشرطُ مكان الطلب ستصبح: " إنْ تنزلْ عندنا تصبْ خيراً "، فيُلغى الطلب، ولا يصبح ثمّة ما يدلّ عليه، ولا يُعرف أصله أهو نهي، أم تمنٍ، أم عرض، أم تحضيض،أم غيره؟، وهل الأصل: " ألا تنزلُ "، أم " لا تنزلْ "، أم " هلاّ تنزلُ "، أم " ليتك تنزلُ "، أم " لعلّك تنزلُ "؟
كما أن الفعل الطلبي سيتغيّر بعد دخول " إنْ " الشرطية عليه، فبعد أن يكون مرفوعاً،أو مجزوماً بـ" لا" الناهية سيصبح مجزوماً بـ " إن " الشرطية.
أمَّا إذا كان تقدير الشرط بعد الطلب - وهو قول كثير من النحويين (87) - نحو: " ألا تنزلُ عندنا [إنْ تنزلْ عندنا] تصبْ خيراً " نكون قد حافظنا على مكونات الجملة الطلبية، ومعنى الطلب، وإعراب الفعل الطلبي.
5 - الاحتفاظ بـ " لا " الناهية وعدم تحوُّلها إلى نافية بدخول " إنْ " الشرطية عليها، وبالتالي سيتغير عملها، فلو أُنيب الشرطُ منابَ الطلب – وهو النَّهي – فإنَّ جملة " لا تهجُ زيداً تسلمْ " ستصبح: " إنْ لا تهجُ زيداً تسلمْ "، فـ " لا " في الجملة الأولى ناهية جازمة، في حين هي في الجملة الثانية نافية غير عاملة. والفعل في الجملة الأولى مجزوم بـ " لا " الناهية، وهو في الجملة الثانية مجزوم بـ " إنْ " الشرطية، فاختلف عامل الجزم في الجملتين.
ولكن بتقدير الشرط بعد الطلب، نحو: لا تهجُ زيداً – إنْ لا تهجُه – تسلمْ " نكون قد حافظنا على الطلب، وعلى عامل الجزم في الفعل الأساسي.
6 - التمكن من إدراج النصوص السابقة التي استشهد بها الكسائي ومن ذهب مذهبه ضمن القاعدة، وعدم الاضطرار إلى القول بشذوذها، أو تأويلها، لا سيما أنّها قد وردت عن أفصح الناس لساناً، وأكثرهم بياناً. يقول ابن جني في (باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور): " إذا اتفق شيء من ذلك نُظر في حال ذلك العربي وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به، وكان ما أورده مما يقبله القياس، إلا أنه لم يرد به استعمال إلاّ من جهة ذلك الإنسان فإنَّ الأولى في ذلك أنْ يُحسن الظن به، ولا يُحمل على فساده (88) "
أما احتجاجهم بندور النصوص التي وردت؛ فليست النصوص التي بين أيدينا هي كل ما قالته العرب، وقد يكشف لنا المستقبل عن نصوص أخرى مماثلة، فقد ذكر السهيلي بأنَّ له نظائر يطول ذكرها (89)، يقول أبو عمرو بن العلاء: " ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلاَّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير " (90).
ويقول أحد الباحثين المحدثين (91): " استقرأ القوم هذه النصوص، ثم انتهوا إلى تقعيد القاعدة،ولمَّا استقرَّ القول فيها والاطمئنان إليها، وجدوا نصوصاً أخرى تأتي على خلاف ما انتهوا إليه، فماذا كان موقفهم حيال تلك النصوص؟ أخذوا يتأولونها بدلاً من أنْ يعملوا على إعادة النظر في القاعدة ".
¥