6 - التمكن من إدراج النصوص السابقة التي استشهد بها الكسائي ومن ذهب مذهبه ضمن القاعدة، وعدم الاضطرار إلى القول بشذوذها، أو تأويلها، لا سيما أنّها قد وردت عن أفصح الناس لساناً، وأكثرهم بياناً. يقول ابن جني في (باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور): " إذا اتفق شيء من ذلك نُظر في حال ذلك العربي وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به، وكان ما أورده مما يقبله القياس، إلا أنه لم يرد به استعمال إلاّ من جهة ذلك الإنسان فإنَّ الأولى في ذلك أنْ يُحسن الظن به، ولا يُحمل على فساده (88) "
أما احتجاجهم بندور النصوص التي وردت؛ فليست النصوص التي بين أيدينا هي كل ما قالته العرب، وقد يكشف لنا المستقبل عن نصوص أخرى مماثلة، فقد ذكر السهيلي بأنَّ له نظائر يطول ذكرها (89)، يقول أبو عمرو بن العلاء: " ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلاَّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير " (90).
ويقول أحد الباحثين المحدثين (91): " استقرأ القوم هذه النصوص، ثم انتهوا إلى تقعيد القاعدة،ولمَّا استقرَّ القول فيها والاطمئنان إليها، وجدوا نصوصاً أخرى تأتي على خلاف ما انتهوا إليه، فماذا كان موقفهم حيال تلك النصوص؟ أخذوا يتأولونها بدلاً من أنْ يعملوا على إعادة النظر في القاعدة ".
لقد كان الكسائي بعيد النظر عندما لم يُوجب تقدير " لا " بعد " إنْ " الشرطية في جملة الشرط الوهمية المقدرة، لأن المعوِّل عليه عنده هو توجُّه الذهن وقيام القرائن؛ فالشرط المقدر يتعيَّن بفهم المعنى المراد، ففي نحو: " لا تدنُ من الأسدِ يأكلْك - بالجزم - معلوم أنَّ قصد المتكلم: إنْ تدنُ يأكلْك، ومثله: " لا تقتربْ من النار تحترقْ " و" لا تكسلْ تندمْ " و" لا توبخْ جاهلاً يمقتْك " و " لا تشتمْ زيداً يضربْك ".
أمَّا إذا لم توجد قرينة توضح المعنى المراد، فعندئذ يتوجب تقدير"لا" في جملة الشرط المقدرة، لتُعيّن أحد المعنيين المحتملين؛ نحو: " لا تقصدْ زيداً تندمْ " و " لا تزرْ زيداً يُهنْك "؛ فلا يُعرف هل التقدير إنْ تقصدْه تندم، أم إنْ لا تقصدْه تندمْ؟ لأنَّ كلاهما محتمل.
وكذا لا يُعرف: إنْ تزرْه يُهنْك، أم إنْ لا تزرْه يُهنْك؟ فكلاهما -أيضًا – مُحتمَل.
وقد كان الجُرجانيّ منصفاً عندما أجازه ولكن على إظهار الشرط؛ أي: " لا تدنُ من الأسدِ فإنَّك إنْ تدنُ منه يأكلْك "، قال: " فلمَّا كان هذا الشرط غير مجانس لما قبله من الكلام وجب إظهاره لينتفي اللبس …." (92)، والحقيقة إنَّ هذا المثال ليس فيه لبس، ولو قصره على ما أوقع في لبس لكان أكثر إنصافاً.
وباستقراء النصوص التي وردت في النهي المجاب عنه، اتضح ما يلي:
1 - لم يرد جواب النهي في القرآن الكريم إلا مقترناً بالفاء، ما عدا آية واحدة،هي ? وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? (93) بالجزم على قراءة الحسن عند من جعلها جواباً، وقد سبق ذكر الحركات الإعرابية التي وردت فيها وتوجيهاتها.
2 - الغالب في كلام العرب عندما تنهى عن فعل، وتُبيِّن العواقب المترتبة على هذا النهي تجزم إذا قصدت الجزاء الطلب الأخرى؛ نحو " أيْنَ بيتك أزرْك؟ " و" ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً " و " ليتَ لي مالاً أنفقْ منه ".
كما أنَّ " لا " الناهية ستتحول عن أصلها بدخول " إنْ " الشرطية عليها وستصبح نافية.
ومن هنا ندرك سبب اختيار أكثر النحويين المذهب الثالث في عامل الجزم، وهو شرط مقدر، كما ندرك سبب قول كثير منهم أن يكون تقديره بعد الطلب؛ قال السيرافي: " ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى، والذي يكشفه الشرط، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " (86).
لذا فالرأي هو جواز الجزم فيما ورد من النصوص على البدلية وعلى الجزاء.
فإذا كانوا قد أجازوا الجزم في النصوص التي وردت وخرَّجوه على البدلية، فلم لا يجيزون القياس على تلك النصوص؟
وإذا أجازوا القياس على تلك النصوص، وخرَّجوه على البدلية أليس من الأولى أنْ يُجاز على الجزاء ما دامت القرائن تبين المعنى؟! أليس من الأولى أنْ نعود إلى رأي الكسائي الذي يُجيزه على الجواب؟ وبينَ المعنيينِ فرقٌ بيّنٌ.
¥