وممَّا ذُكر فيه الجزم على الجواب قوله تعالى: ? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مَمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مَن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ? (98) ذكرها سيبويه (99) ضمن ما ينجزم على الجواب، وكذا جاء عن الأخفش والمازني وغيرهما (100)، وقالوا الفعل " يُقيموا " مجزوم على جواب (قلْ)، والمعنى: قلْ لهم أقيموا يُقيموا، أي: إنْ تقلْ لهم يُقيموا.
وكذا جاء عن المبّرد (101)، إلاّ أنّه يجعل الفعل مجزوماً على جواب "أقيموا" المحذوفة المقدرة.
فالفعل المضارع في الأقوال السابقة مبنيّ على الطلب، مترتّب عليه، ومشروط به، ومسبّب عنه.
ورُدّ قول الأخفش والمازنيّ ومن وافقهما:
1 - بأنَّ (قلْ) لابدَّ له من جملة تُحكى به؛ لأنَّ أمرَ اللهِ لنبيّه بالقول ليس فيه بيانٌ لهم بأنْ يُقيموا الصلاة، حتّى يقول لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- " أقيموا الصلاة " (102).
2 - وبأنَّ تقدير: قلْ لهم أقيموا يُقيموا ليس بصحيح؛ لأنَّه يلزم فيه ألاَّ يتخلف أحد من المقول لهم عن الطاعة، والواقع بخلاف ذلك (103).
ورُدَّ بأنَّ الفعل مسندٌ إليهم على سبيل الإجمال، أو أنْ يكون المقصود المخلصين من المؤمنين (104).
ورُدَّ قول المبرد، وقيل: فاسدٌ من وجهين (105):
1 - أنَّ الجواب يجب أنْ يخالف الشرط: إمَّا في الفعل؛ نحو:" أسلمْ تدخل الجنة"، أو في الفاعل؛ نحو:" أكرمْني أُكرمْك"، أو فيهما معاً؛ نحو:" ايتني أكرمْك".
أمَّا إنْ كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ كقولك: " قمْ تقمْ " وتقديره: إنْ يُقيموا يُقيموا.
2 - أنْ الأمر المقدّر " أقيموا " للمواجهة، والفعل المذكور " يُقيموا " على لفظ الغيبة، وهذا لا يجوز إذا كان الفاعل واحداً.
وقال الرضي:" قول المبرّد فيه من التكلف ما فيه " (106).
وجاء عن جماعة من النحويين المفسرين أنَّ المعنى هو الأمر بإقامة الصلاة، فتقدير: " قلْ لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ": قلْ لهم أقيموا الصلاة، والفعل " يُقيموا " مجزوم بلام أمر محذوفة، وتقديره: ليقيموا، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة " قلْ " على الأمر؛ وهو قول الكسائي، وابنِ مالكٍ، وجماعة، وأجازه الزّجاج (107).
أو أنْ يكون الفعل " يُقيموا " مضارعاً بلفظ الخبر صُرف عن لفظ الأمر، والمعنى: " أقيموا " فلمَّا كان بمعنى الأمر بُني؛ قاله أبو علي الفارسي وفرقة (108).
وقال الزجاج - بعد استعراض ما جاء فيه من المذاهب:" أجودها أنْ يكون مبنيّاً، لأنَّه في موضع الأمر " (109).
وأجاز بعض الكوفيين أنْ يكون نحو: " مُرْهُ يَحْفِرَها " - بالنصب -على تقدير: " أنْ "؛ أي: بأنْ يحفرَها؛ ورُدَّ بأنَّ الفعل عامله لا يُضمر (110).
وبالنفاذ إلى عمق المعنيين، وبإنعام النظر فيهما نجد أنَّ معنى الأمر في الآية الكريمة أقوى من معنى الجزاء، وليس في الأمر بإقامة الصلاة دليل على الاستجابة أو عدمها؛ فالنتيجة المترتبة على الأمر بالصلاة هي معنى آخر، ليس في لفظ الآية ما يدل عليه، والمقصود - والله أعلم - هو حثّ المؤمنين على إقامة الصلاة والإنفاق، وليس في اللفظ ما يدلّ على الامتثال أو عدم الامتثال، ولا على النتيجة المترتبة على أمرهم بإقامة الصلاة والإنفاق؛ إذ ليس المقصود الإخبار بأنه إنْ أمرهم امتثلوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا!!
وشبيهٌ به قولُنا:" قلْ للطلاب يكتبوا الواجب"، المقصود وبكل بساطة هو أمرهم بالكتابة، والتقدير: قلْ للطلاب اكتبوا الواجبَ،أو أنْ يكتبوا الواجبَ، ويبعد تقدير: قلْ للطلاب اكتبوا يكتبوا؛ لأنَّه ليس في اللفظ دليل على إرادة الإخبار بنتيجة الأمر، ولا يلزم من مجرد القول الامتثال والكتابة، وليس في اللفظ دليل على الامتثال؛ لأنهم قد يمتثلون وقد لا يمتثلون. وشبيه به:" قلْ لزيدٍ يُسامح المعتذر"، وغيره مما نلمس في معنى الجزاء فيه بعد وتكلّف، وتزيّد في المعنى، وكثرة الحذف والتقدير؛ فالتكلّف يكمن في افتراض معنى الشرط والجزاء لتسويغ الجزم في الفعل " يُقيموا ".
والتزيّد في المعنى؛ لأنَّ اللفظ ليس فيه ما يدلّ على النتيجة المترتبة على أمرهم بالصلاة.
وكثرة الحذف والتقدير - ولنا مندوحة عنهما -؛ لأنَّ الفعل " يُقيموا " إذا جُعل جواباً للشرط فسيخلو القولُ من مقولٍ، ولابدَّ من تقديره، بالإضافة إلى تقدير الشرط الجازم للجواب.
وليس كذلك في المعنى الآخر الذي هو معنى الأمر؛ فبتقدير " أقيموا " مكان " يُقيموا " لن يكون فيه حذف، وسيكون المقدَّر في مكانه الأصلي، ومن لفظ المذكور.
وبتقدير لام الأمر أو " أنْ " قبل الفعل سيكون التقدير أقل من تقدير جملة بأكملها كما هو في معنى الشرط والجزاء. وقد نصَّ السيوطي (111) على أنَّ:
- القياس أنْ يُقدَّر الشيء في مكانه الأصلي.
- وينبغي تقليل المقدَّر.
انظر المشاركة التالية
¥