تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد استنبط العلماء من هذا الحديث قاعدة فقهية جليلة ترسخ مفهوم الحرية الفكرية بقولهم: "الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد" (2).

ولبشاعة "الإرهاب الفكري" في التعاليم الإسلامية، نفَّر منه الإسلام، حتى مع المخالفين له جذرياً، وهذا القرآن الكريم مليء بالمناظرات العلمية مع خصومه في جو تسوده الحرية والأمن الفكري؛ إذ يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، آل عمران: 64.

بل نهى الله المؤمنين عن أدنى درجات "الإرهاب الفكري" في مناظراتهم لأهل الكتاب؛ إذ يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، العنكبوت: 46.

وهكذا سيرة المصلحين مع خصومهم، كما هي سيرة علي رضي الله عنه مع الخوارج لما ناظرهم بنفسه، وبواسطة عبد الله بن عباس، مناظرة تبعث الطمأنينة في النفوس على قاعدة "الأمن الفكري"، وهذا مع شدة صلف الخوارج وعنادهم، وحاشا أمير المؤمنين علياً أن يستعمل في حقهم وسيلة من وسائل "الإرهاب الفكري"، فلم يقاتلهم لأجل فكرهم، بل قاتلهم لأجل اعتدائهم على المسلمين.

وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الموصوف بالشدة في الحق، يناظر (قدامة بن مظعون) في مسألة قطعية ضرورية، مناظرة هادئة متسامحة؛ ذلك لما استباح قدامة شرب الخمر مستدلاً بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، المائدة: 93.

فقال له عمر: "إنك أخطأت التأويل يا قدامة! إذا اتقيتَ الله اجتنبتَ ما حرم الله! " (3). هكذا بكل طمأنينة وهدوء.

وقد ضرب الإمام مالك رحمه الله أروع الأمثلة في نبذ "الإرهاب الفكري"، لما رغب أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بكتابه (الموطأ)، عندها قال الإمام مالك: "يا أمير المؤمنين! لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم ... " (4). وهذا موقف من إمام دار الهجرة، يمثل صورة مشرقة في التعامل الحضاري الرفيع.

ويبلغ "الإرهاب الفكري" مداه حينما تحتضنه قوة التحالف المكونة من الاستبداد السياسي والديني، ذاك التحالف المشؤوم الذي أخاف السبيل، وهتك حرمة الدليل، وانتهك المحارم، وارتكَب العظائم، كل ذلك من أجل مصالحه الشخصية ومآربه الضيقة.

وكما كان في الغرب ممثلاً في الكنيسة والإقطاعيين؛ فهو اليوم عندنا ممثل في علماء السلطة، والحكومات المستبدة التي لا يقيدها قانون ولا يلجمها نظام؛ ففقهاء السلطان يمثلون القوة التشريعية لـ"الإرهاب الفكري"، وحكام الاستبداد يمثلون القوة التنفيذية له، حتى أصبح "الإرهاب الفكري" إحدى الأيدي الباطشة لأخطبوط الاستبداد، ولطالما طالت تلك اليد الغاشمة المجاهدين من العلماء والمصلحين، وما بروز مصطلح "الوشاية" في ثقافتنا العربية إلا من أثر هذا التحالف المقيت، بل أصبح هذا المصطلح محفوراً في ذاكرة تاريخ سير هؤلاء العلماء والمصلحين؛ فهذا الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أحد ضحايا لطمات تلك اليد القاسية، وذلك لما وُشِيَ به إلى أبي جعفر المنصور، أنه لا يرى صحة إيمان بيعة السلطان بالإكراه، فجُرِّدَ من ثيابه، وضُرِب بالسياط، ومُدَّتْ يده حتى انخلعت كتفه (1).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير