تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد يكون الجهل المركّب حليفاً لهذا التحالف الظالم، فيلتقي معه في كراهية الدليل والبرهان والحجة، ويفترق معه في درجات الشيطنة؛ فشيطان "الإرهاب الفكري" قابع في أغوار نفس الجاهل جهلاً مركباً، يهيج عندما يُذَمُّ التقليد أمامه، ويُزْعَج عندما تحاول أن ترتقي به فكرياً بأسلوب العلم الرفيع، عندها يثور ذاك الشيطان من قمقمه، كما ثار على المجاهد المصلح المظلوم محمد بن إبراهيم الوزير، فاعتزل قومه، وفي ذلك يقول:

أعاذل دعني أرى مهجتي ... أزوف الرحيل ولبس الكفن

وأدفن نفسيَ قبل الممات ... في البيت أو كهوف القنن (2)

وما زالت مسيرة البذل والتضحية في تمزيق هذا التحالف الجائر زاخرة بمواقف الدعاة المصلحين: كموقف أبي حنيفة، وأحمد، والبخاري، وابن حزم، وابن تيمية، وابن الوزير وأمثالهم، عليهم رحمة الله (3). إلا أن آثار ذلك التحالف الباغي على الفكر الحضاري للأمة مؤلمة لطول زمنه الجاثم على فكر الأمة وحضارتها؛ فقد أضرم البلاد ناراً، وأسعرها بالجور إسعاراً، وأحوج أهلها إلى الجلاء والشراد والتفرق في البلاد، ولعلِّي في هذه العجالة أُعدد بعض آثار الإرهاب الفكري المدمرة على الحضارة الإسلامية، فمنها:

1 ـ ترسيخ مفاهيم الاستبداد في المجتمع المسلم، حتى أصبحت ثقافة سائدة في السياسة والدين، والبيت، والشارع، والجامعة، وفي كل نواحي الحياة، وهذه أخطر آثاره المدمرة.

2 ـ ترسيخ المفاهيم المغلوطة في نفوس البشر، وتزويق الباطل، وتصويره بصورة الحق الذي لا يقبل النقاش؛ وذلك مثل ما حصل في "فتنة القول بخلق القرآن".

3 ـ زرع الالتباس في أذهان الناس بين الأحكام الشرعية والأحكام الوضعية؛ فأعلاها أن يلتبس على العوام الفرق بين الحاكم والإله، كما حصل لقوم فرعون، ولأتباع الحاكم بأمر الله العبيدي المعروف بالفاطمي، ومن صور هذا الأثر السلبي في أحكام "الإمامة العظمى" بين الحق الذي أراده الله، والباطل الذي أراده الاستبداد.

4 ـ قمعه للإبداع الفكري، وهذا ما حصل للفكر في أعقاب زمن الحضارة الإسلامية؛ فقد مرت على الأمة قرون كان الاجتهاد فيها محرماً؛ ونودي فيها بإقفال بابه.

5 ـ ازدهار سوق النفاق والتملق في عهد ذلك التحالف المشؤوم؛ إذ هو عدو لدود للصدق والصفاء والنقاء.

كما كان هو الفلاَّح المشؤوم الذي زرع الجبن والخور والكذب في نفوس أُسرائه، ومن لطيف ما يرويه التاريخ لنا أن رجلاً دخل على المهدي (أحد خلفاء بني العباس) فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال حديثاً يتلمس به رضا سيده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح" فزاد "أو جناح" كذباً ونفاقاً (4).

فقاتل الله الاستبداد والاستعباد، لا تكاد تفقده عند المطامع المردية والمآكل اللئيمة والمعايش المخزية.

وإني في الختام أدعو علماء الأمة ومثقفيها وقرائها وحكمائها إلى المساهمة في مشروع نهضوي فكري، عنوانه "مكافحة الإرهاب الفكري"، وذلك بالسعي إلى الإصلاح الديني، وتنقية المفاهيم الشرعية من علائق وشوائب الاستبداد؛ فالإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي، والإصلاح السياسي هو المؤثر إيجاباً وسلباً على النواحي الحضارية الأخرى، كالاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، كما أنني أدعو إلى تجديد ثقافة الحوار المبني على قاعدة "الأمن الفكري"؛ فما أجمل الإعذار والتسامح مع الفكر ما دام أنه يدور في فلك الشريعة، لا يصادم ضروراتها، ولا ينتهك قواعدها القطعية!

وما أقبح "الإرهاب الفكري" حتى مع المخالفين لنا جملة وتفصيلاً!


(1) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دمشق، دار الفكر، سنة 1979م، ص 115.

(1) أخرجه البخاري صحيحه برقم (7352)، ومسلم في صحيحه برقم (1716).

(2) انظر: «الأشباه والنظائر في قواعد فروع الشافعية، مطبعة دار إحياء الكتب، مصر، ص 113.

(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/ 546، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 135)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 154.

(4) أخرج هذه القصة ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" برقم (87) بتحقيق الزهيري، دار ابن الجوزي 1419هـ 1998م، والقصة وإن كان في سندها "محمد بن عمر الواقدي"، وهو متروك إلا أن الذهبي قال بعد إخراجه للقصة برواية أخرى: "هذا إسناد حسن"، انظر سير أعلام النبلاء 8/ 62.

(1) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط وآخرين، ط 2 بيروت، مؤسسة الرسالة 141هـ ـ 1981م. 8/ 61 ـ 62.

(2) الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وكتابه العواصم والقواصم «للقاضي إسماعيل الأكوع، مطبوع في مقدمة كتاب "العواصم والقواصم"، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، 1/ 63.

(3) ومن الجهود التي تذكر ولا تنكر في تمزيق هذا التحالف المشؤوم، جهود الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ويلاحظ أن الكواكبي لديه بعض الانحرافات الفكرية التي تقربه من العلمانية.

(4) تلك القصة في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للذهبي، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، ط الأولى، 1416هـ ـ 1995م، 5/ 407 في ترجمة غياث بن إبراهيم النخعي.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير