تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقبل أن نخوض في بعض تفاصيل هذه المعايير، نتعرض لمفهوم قد يبدو بسيطا في تناوله إلا أنه يتفق مع الموضوع الذي نحن بصدده، ويصح أن يكون توطئة له، ألا وهو المتعلق بالمشيئة والعلم الإلهيين، فمشيئة الله سبحانه تعالى وعلمه من الأمور المعلومة بالضرورة , والتي لا يُتصور انعدامها أو نقصانها أو ضعفها أو ارتباطها بمقدرات وعوامل أخرى , ولا يُتصور كذلك جريان أمر هذا الكون دون مشيئة خالقه ومدبره، ودون علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون وأثناء كينونته وبعدما كان ومصيره بعد ذلك وما آل إليه أو ما كان يمكن أن يؤول إليه وهذا القول هو ما يتفق مع العقل والفطرة، وهو ما يستقيم معه الخلق جميعا، ويمكن تصور هذه المشيئة من زاويتين: الأولى ما تعلق منها بجميع المخلوقات والثانية ما تعلق منها بالأنس والجن فقط

أما تلك المتعلقة بجميع المخلوقات فلها وجهين أيضا:-


الوجه الأول: -
هو إرادته سبحانه وتعالى في الخلق بداءة وتنظيم هذا الخلق وتدبيره وما يعتريه من تطورات وأحداث فيما نعلمه وفيما لا نعلمه وفيما ندركه وما لا ندركه، ويدخل في هذا الوجه الإنس والجن لكونهما خلق من خلق الله، ومشيئته سبحانه وتعالى في هذا الصدد هي خلق هذه المخلوقات بكيفية معينة وبهيئة معينة ووظيفة معينة وبتسلسل زماني ومكاني معينين وعلى أنظمة معينة بعضها معلوم حكمته وكثير استأثر الله بعلمه , وكذلك خلق أفعال العباد وأقوالهم وأحوالهم ومصائرهم , ومن ذلك قوله (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام) (7) وقوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (8) وقوله (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (9) فقد بين الله تعالى في هذه الآيات ما اقتضته مشيئته من خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار بطريقة لا نعلمها وبهيئة هو الذي اختارها إلا أنه بين لنا بعض الحكمة منها، وأيضا هيئة الإنسان وجوارحه: قال تعالى يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (10)، فحدد سبحانه على وجه قاطع أنه هو الذي خلق الإنسان على ما هو عليه وعلى صورته التي خلق عليها بمشيئته وإرادته، وكذلك خلق الجان حيث قال تعالى: " (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (11)، أما خلق أفعال العباد فالحق الذي عليه أهل السنة والجماعة هو أنها مخلوقة ومقدرة سلفا، وفي ذلك يقول الطبري: "وأما الصواب من القول لدينا فيما اختلف من أفعال العباد وحسناتهم وسيائتهم فإن جميع ذلك من عند الله والله سبحانه وتعالى مقدره ومدبره ولا يكون شيء إلا بأذنه ولا يحدث شيء إلا بمشيئته
له الخلق والأمر" (12)
الوجه الثاني: -
هو مشيئته سبحانه وتعالى المتعلقة بمنهجه الذي ارتضاه لعبادته به العبادة الحرة التي من أجلها خُلق الإنس والجان قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (13) هذا المنهج هو الدين الذي يحب الله تعالى أن يتعبد به , لذا نظمه سبحانه وفق ما يراه على مراحل زمنية متعاقبة بدأت مع نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، حتى بعثة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذي ختم الله تعالى به الأديان والرسل، وهذين الوجهين لا إرادة للإنسان فيهما ولا شأن له بهما، على ما بهما من حكمة علمها من علمها وجهلها من آبى.
أم الزاوية الثانية من المشيئة.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير