فلمّا وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جواباً منه: وإن المذكور ممّن له حُرمة قديمة تغنيه عن أن يمتَّ بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها,, ولسنا ممّن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكُتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنّما نحن أحلاسُ ثغور، وكتّاب كتائب لا سطور,, وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنّه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك يَقدح عندنا فيه، بل زاده (لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة) في الإكرام والتنويه، انتهى.
قال أبو عبدالرحمن: تشدُّقُ هذا البربري انتهى به إلى سقوط مملكة طليطلة، ثم توالت الكوارث.
ومن قصص الكاتب المغفل مع الأمير حريز أنه في موكبه وهم في سَفَر، وكان في فصل المطر والطين، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عُكاشة، فلمّا أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره؛ ففطن لذلك الأمير؛ فقال له: يا أبا محمد: تقدّم,, فقال: معاذ الله أن أُسيئ الأدب بالتقدم على أميري,, فقالك فإن كان كذلك فتأخر مع الخيل,, فقال: مثلي لا يُزال عن ركابك في مثل هذا المواضع,, فقال له: فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك عليَّ من الطين,, فقال: أعزّ الله الأمير: يعذرني؛ فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك,, فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه.
قال أبو عبدالرحمن: ويدلك على الترف في طيلطلة هذا الشعر الذي أرسله أبو محمد عبدالله بن عذرة إلى بعض أصحابه من الأسر في طلَيطلة:
لو كنتَ حيثُ تجيبني
لأذاب قَلبك ما أقول
يكفيك منّي أنني
لا أستقلُّ من الكُبُول
وإذا أردت رسالة
لكُمُ فما ألفي رسول
هذا وكم بِتنا وفي
أيمانِنا كأس الشَّمول
والعُودُ يخفق والدخان
(م) العَنُبريُّ به يجول
حال الزمانُ ولم يَزَل
مذ كنت أعهده يحول
قال أبو عبدالرحمن: لقد اصبحت طليطلة نصرانية، ولكنها آخذة بالجد في امتصاص معارف المسلمين كما امتصلت دماءهم,, قال ابن الخطيب عن عبدالله بن سهل الغرناطي: من كتاب ابن حمامة قال: عُني بعلم القرآن والنحو والحديث عناية تامة (وبهذا كنت أسمع الثَّناءَ عليه من الأشياخ في حال طفولتي بغرناطة)، ثم شُهر بعد ذلك بعِلم المنطق، والعلوم الرياية، وسائر العلوم القديمة,,
وعَظُم بسببها، وامتدَّ صيتُه من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصاري أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمَّه (وبين هذه المِلل الثلاث من التَّحاسد ما عُرف) ,, وكانت النصارى تقصِده من طُليطلة تتعلَّم منه أيام كان ببيَّاسة، وله مع قَسِّيسهم مجالسُ في التَّناظر حاز فيها قَصَب السَّبق.