والمحصولات الزراعية، وكان مفتاحها بيد والدي رحمه الله، لا يُسلِّمهُ لي إلا بعد أخذ التعهدات اللازمة والأَيْمان المغلَّظة ألا أسلك بها جبلاً ولا عَقَبةً، وصِيغة قَسَم طويلة تُشبهُ القَسَم في الكليات العسكرية عند التخرج رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وذلك لصعوبة الحصول على السيارة، وتقديره الشديد لتلك السيارة وشدة الحاجة إليها في تلك الجبال، لدرجة أن رجلاً عرض عليه شراء تلك السيارة منه يوماً فكرهه حتى مات لمجرد أن قال له: هل تبيع السيارة؟
وبعد أخذٍ وردٍّ مع صاحبي وافقتُ على مساعدته ذلك اليوم بتحميل بعض الأغراض والمواد الغذائية وإيصالها معه إلى مناطق تهامة بني شهر، فأخذتُ المفتاح خفيةً، وذهبت معه ونزلنا تهامة ظهر ذلك اليوم مع عَقَبَةٍ وعرةٍ جداً تُسمَّى (عَقَبة سِنَان) في النماص (2)، وهي توصل السالك لها إلى منطقة خاط ثم المجاردة من مناطق تهامة. وذهب بنا صاحبي وكان خِرِّيتاً يعرف المنطقة هناك، حتى وصلنا إلى منطقة بها بعض الفقراء نسيت اسمها الآن، وأخذ ينعطف بي يميناً ويساراً حتى وصلنا منطقة لم أصدق عيني عندما رأيتها، بأهلها من الفقر والحاجة والعوز ما لا يكاد يصدق، وتَجمَّع الناسُ علينا حتى خفتُ على نفسي وعلى السيارة! وتذكرتُ والدي وكيف لو رأى هذا المنظر، وهم يتقافزون على السيارة من هنا وهنا!
وفي دقائق لم يبق في سيارتي وسيارته شيء، وبقي أكثرهم ينظرون إلينا ينتظرون ما نقدمه لهم، فنظر إليَّ صاحبي نظرةً معبرةً وقال: ما رأيك يا صاحب القرآن، هل الانقطاع للقرآن أفضل، أم تأتي غداً تساعدني ونتدبر لهؤلاء طريقةً نساعدهم بها؟
فقلتُ: حسبي الله عليك! وهل يستطيع أحد يرى حال هؤلاء أن يقول لك: لا؟ توكلنا على الله، أنت فقط تدبر لنا أمر المواد الغذائية، وأنا سأتدبر أمر السيارة!
وفي اليوم التالي تسللت وأخذت مفتاح السيارة خفية أيضاً وذهبت معه، وهكذا تكرر الحال اثنا عشر يوماً كل يوم نذهب لمكانٍ أشد حاجةً من الأول، وأبي يستغرب من ذهابي كل يوم بالسيارة قبل الظهر ولا أعود إلا قبيل المغرب! وأنا أحاول التهرب من مواجهته، وإذا صليتُ بهم للتراويح يرتاح ويُروِّق ويسكت، وهكذا، وأراه بين الحين والآخر يذهب للسيارة يتفقدها وينظر فيها هل نقص منها شيء يا ترى؟ وأنا قد انتبهت لمصادرته للمفتاح فأخذت كم نسخة منه احتياطاً!
ولا أنسى متعة ذلك الشهر، والسعادة التي كنت أشعر بها وأنا أوصل تلك المواد للفقراء مع صاحبي جزاه الله خيراً وتقبل منه، فعهدي به بعيد، وهو لا يترك تلك العادة الطيبة هنيئاً له، وتذكرتُ كم نحن أنانيون في تصرفاتنا، وحرصنا على أنفسنا في كثير من المواقف، ورأيت من صبر صاحبي وجلده على بذل المعروف للناس ما زَهَّدَني فيما كنتُ عزمتُ عليه من الانقطاع للقرآن فقط في ذلك الشهر، وعلمتُ معنى أن تدخل سروراً على عائلةٍ معدمةٍ.
والدرسُ الذي تعلمته من تلك المشاوير أنَّه لا بد للمسلم أن يفكر بشكل عملي في مساعدة الفقراء في رمضان بأي طريقة يقدر عليها، وما أكثر الأبواب التي تفتح في شهر رمضان للخير، فلا تحرم نفسك من المشاركة في هذا الباب فلا تدري متى يُغْلَق دونك.
المشروع الثالث:
لَمَّا تَولَّيتُ الإمامة في مسجد الصحابة بحي الغدير عام 1427هـ قررتُ أن أنظم رمضان على أساس أن يكون هناك مسابقة يومية لأهل الحي بجميع فئاتهم، وتكون جوائزُها مُشجعةً، فجلستُ مع زوجتي وأبنائي أستشيرهم في أمر المسابقة وخرجنا بعد المشاورة وتبادل الرأي إلى أَنْ يكون برنامج رمضان كالتالي:
1 - وضع مسابقة في القرآن كل يوم أطرح سؤالاً أنتقيه بعناية من داخل الجزء الموافق لليوم، وأقوم بتعليق السؤال مع أذان المغرب، ويبدأ استقبال الأجوبة حتى نهاية صلاة التراويح، ثم يقفل صندوق الأجوبة، وهكذا. والهدف هو إشغال الوقت بين المغرب والعشاء بِما يفيدهم حيث إِنَّ أكثرَ القنوات كانت - وأظنها لا تزال - تقدم في هذا الوقت برامج غير مناسبة. ونَجحَت هذه التجربةُ نَجاحاً باهِراً، واضطررت أول مرة أن أدفع الجوائز بحيث أعطي لكل فائز 300 ريال يومياً نقداً، وأعلن اسم الفائز بعد صلاة المغرب يومياً، فكان أبناء الحي كلهم صغاراً وكباراً يُبكِّرونَ في الحضور للمغرب، ويحرصون على الصف الأول، وتحرك الحي حركة أسعدت الآباء، ولما كان يوم 18 من
¥