تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بيدَ أنَّ البيَان الإلهي يُقرِّر أن هذا الوَحي الشِّيطاني لا يَتأثَّر بِه ولا يَميلُ إلَيه إلا مَن لم يُخلَص قَلبُه بِخالِصَة ذِكرى الدَّار؛ مِمَّن لم يَصطَبغ بِنُور الوَحي، وصَغى فؤاده لكلِّ ناعِق مِن غير تثبُّت وَمن غَير احتِكام إِلى البيِّنات التي هِي أمُّ الكِتاب؛ ويُؤكد الله سُبحانَه أنَّ أكثَر النَّاسِ في الأَرض راضين بِهذا الوَحي الشَّيطاني فاتِحين لَه قُلوبَهم إلاَّ مَن رَحِم اللَّه ممَّن أوتِيَ العِلم الحَق؛ علم الوَحي!! ويُلاحَظ أنَّ الله تعالى ذَكَر هذا القَانُون بِصيغة الإِطلاق والتَّعميم مِمَّا يُدلِّل على أنَّه قَانون ساري المَفعول في كلِّ زَمان ومَكان، وليس خاصا بالمُجتمع الجَاهلي الذي تنزَّلت هذه الآيات المَكية بينَ ظَهرانيه!!

والسُّؤال المَطروح الذي نَودُّ مُعالَجته في هَذا المَقال: ما هُو العَاصِم من الانزِلاق وراء هذه الشُّبَه والأَمثال والإيحاءات الشَّيطانية الآثِمة؟! وما هي الآليَة التي يَثبُت بِها الإِنسان المُسلِم أمام هذه الزَّعازع القاصِمة للظَّهر؛ المُردية في المَهالِك؟!

الجَواب نستشفُّه وَاضِحا مِن خِلال المَقطَع الفُرقاني الذي استهللنا بِه هذه المُداخَلة ... إنَّه في قَولِه تعَالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:32 - 33].

لقَد تَضايَقَ الكُفَّار مِن هذا القُرآن الذي ما فتِئَ يتنزَّل على مُكث يُزيِّف شُبههَم، ويكشِفُ عُوارَهم، وكُلَّما ظَنُّوا أنَّهم قَد ألجَمُوا لِسانَ رسول الله ? عَن البَلاغِ والمُحاجَجة إلا وقَرعتهم آيَة جديدة تُبكِتُهم وتُلقِمُ الأحجَار في أفواهِهم، وتَرُدُّهم على أعقابِهم صاغِرين؛ فلِذا طَلبُوا مِن الرَّسُول ? أن يُنزِّل إليهم القُرآن جُملة وَاحِدة حتَّى يسهُل عَليهم أن يَختَلقوا جوابا يَرُد على المَجمُوع في نَوع مِن التَّخفيف على أنفُسِهم، والتَّعمية على ضِعاف القُلوب وأراذِل القَوم، وعَدم التَّعرض إلى آحاد الأدلة التي لا يستَطيعُون لَها ردا مُقنعا على وَجه التَّفصيل؛ والله تَعالى يذكُر العِلَّة وَاضِحة صَريحة مِن خِلال هذا التفريق في التَّنزُّل " والمُكث في إنزَالِه ... كذلك لنثبِّت به فؤادَك ورتَّلناه تَرتيلا"!!

فهيهَات للقُلوبِ إذَن أن تَثبُت (تعمِيما لمَدلول الآيَة)، وللشُّبه أن تَنجلي، وللحَقائِق أن تُفسَّر؛ بالأَخذ بالقُرآن جُملة على طَريق الوِراثة والتَّبرك، والمعرفة العامَّة السَّطحيَّة التي ابتُلي بِهذا كَثير مِن المُسلمين – سيما في هذا العَصر-بل بقِراءة التَّرتيل الدَّالة على التَّأني والمُكث في التَّلقِّي والتَّدبُّر مِن جِهة، والاستِماع المُنصِت المُتواصِل لِكلاَم الخالِق العَظيم مِن جِهة أُخرى!!

والتفسير المَقصُودُ في العُنوان هُو ما نَصطَلِحُ عليه بالتَّفسير الفُرقاني الذي هُو بِمعنى إظهار الله تعالى الحَقائِق، وكَشفه الأسرار، وإزاحته الشُّبه بالصَّبر والاتِّباع والإنصات؛ كَمثل غَيث مُنهَمر وَقع على أرض قاحِلة جَرداء فأنبَت الزَّرع وأحيَا المَوات!! وكمثل صُبح أسفَر على غياهب لَيل، فانزوى ظَلامُه، وانقشعَت غُيومُه! ولكن خُلِقَ الإِنسَان مِن عَجل؛ يُكثِرُ مِن التساؤلات والاستِشكالات قبل أن يُصغي لِخالِقه العَظيم؛ يزكي روحه ويَصقل وجدانَه، ويؤسس أرضِيته المَعرفية على قَاعدة صَلبة مِن نُور اللَّه!!

وهذا التَّفسير النُّوراني الفُرقاني لا يَحتاجُ إلى كَبيرِ ملَكة في اللُّغة وطُول باع في علوم اللِّسان؛ بِقَدر ما يَحتاج إلى نَفوس خاشِعة نقية، مُتجرِّدة عن السَّوابِق والخَلفيات، مُترفِّعة عن النزوات والاعتبارات ... فلَم يَكُن العَرب المُخاطَبون بالآيَة ذوي نقص في اللُّغة أو ضُعف في اللِّسان؛ بل كانت نُفوسُهم مُشرَبة بِحُب الأَصنام والآلِهة، والانسياق وراءَ الشَّهوات وموروث الآباء ممِّا حالَ دُون تمثُّل نُور الوَحي فيهِم!

(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً? [طه: 114].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير