2 - استدل الشيخ الفاضل بكلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في البدائع:" السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: [ذق إنك أنت العزيز الكريم] كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"أ. هـ.
والملاحظة هنا نفس الملاحظة التي ذكرتها على نقله من السيوطي، الكلام رائع ولكن لا علاقة له فيما نحن فيه.
بعد اقتباس الشيخ الفاضل من ابن القيم ـ رحمه الله ـ ضرب عشرة أمثلة فقال:
"إذا عرفت هذا فاعلم أن هناك أسباب نزول لآيات كريمة يصعب التوفيق بينها وبين السياق الذي نزلت فيه الآية، وإليكم الأمثلة:
1 - " [كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم] [آل عمران:86]."أ. هـ.
ذكر الشيخ الفاضل في سبب نزول هذه الآية روايتين: الأولى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها نزلت في رجل من الأنصار آمن ثم ارتد ثم تاب. وذكر تحسين البيهقي لهذه الرواية. والثانية: عن الحسن أنها نزلت في أهل الكتاب. وقال أن هناك رواية أخرى حسنة أنها في أهل الكتاب. ثم علق قائلا:" والحق أن هذه الآية كما يشهد سياقها نزلت في أهل الكتاب ... وهذا ما رجحه الطبري ـ رحمه الله ـ"أ. هـ.
إلا أنني أختلف مع الشيخ الفاضل في فهمه لكلام الطبري، ويبدو لي أن الطبري على عكس ما ذكر! وإليك نص كلام الطبري بتمامه:
"قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن. وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم ارتد وهو حيٌّ عن إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله".
ويبدو لي أن الشيخ الفاضل اكتفى بقول الطبري"وأشبه القولين بظاهرالتنزيل ما قال الحسن" وهذا ليس ترجيحا من الطبري؛ وإنما تحليل للأقوال ووصف لجانب القوة والضعف فيها، ولم يرجّح بعد، فسرعان ما قال بأن الآخرين أعلم بتأويل القرآن والأخبار عندهم أكثر. وجاء بقول جميل حيث جمع بين السبب والمناسبة في الآية الكريمة، فجوز السبب أنها فيمن ارتد ثم تاب، وذكر مناسبة ترتيب الآية مع أهل الكتاب على أنهم آمنوا بمحمد صل1 قبل أن يبعث وكفروا به بعد أن بعث، فكفروا بعد إيمان، كما حصل من هذا الأنصاري، ولذلك قال الطبري في نهاية هذا الرأي: " بل ذلك كذلك إن شاء الله".
والذي يؤكد أكثر أن الطبري رجح الرأي الأول؛ وهو أنها في الأنصاري الذي ارتد ثم آمن، أن الطبري تابع تفسيره للآيات مؤسسا على هذا الرأي فقال بعد ذلك:
"ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره: [إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا] يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صل1 من عند ربهم وأصلحوا، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال [فإنّ الله غفور رحيم]، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره [غفور]، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة".
ويشار إلى أن المؤلف الفاضل نقل في كتابه تأييد رشيد رضا للرأي الذي تبناه ونقل كذلك قول رشيد رضا:" وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري والأستاذ الإمام"أ. هـ. ولا أدري كيف اتفق رشيد رضا مع المؤلف على نسبة هذا الرأي للطبري! إلا إذا كان الشيخ الفاضل نقل ترجيح الطبري عن رشيد رضا ثقة به، والله أعلم. وإن كنت عندما رجعت إلى ترجيح رشيد رضا وجدت فيه فرقا بسيطا في دقة العبارة وعلى كل حال نحن موضوعنا مع الدكتور فضل حفظه الله.
¥