يقول ابن عاشور في معنى {بُعثِر}: معناه قُلب من سفل إلى علوّ، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها.
وجاء في كتاب المفردات للأصفهاني في تعريف لكلمة بعثر " أي قلب ترابها وأثير ما فيها "
وقال الإمام الرازي حول هذه الأية " لما قال {بُعْثِرَ مَا فِى القبور} ولم يقل: بعثر من في القبور؟ ثم إنه لما قال: {ما في القبور}، فلم قال: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ} ولم يقل: إن ربها بها يومئذ لخبير؟ الجواب عن السؤال الأول: هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو يقال: إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء ".
ويقول ابن عاشور في معنى:
" {حُصِّل}: جُمع وأُحصي. و {ما في الصدور}: هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق، أي جُمع عَدُّه والحسابُ عليه ".
عرفها الأصفاني في كتاب المفردات " حصُل: التحصيل إخراج اللب من القشور كإخراج الذهب من حجر المعدن فقوله (حصل ما في الصدور) أي أظهر ما فيها وجمع كإظهار اللب من القشر وجمعه ".
السرعة في البعثرة للأجساد، ثم سرعه ومباغته في جمع ما في صدور الخلائق من البشر بعد البعث، وما في نفوسهم وصدورهم من نوزاع الخير والشر والتي تبنى عليها تصرفات وسلوكيات جوارح القلب والعقل، فكانت سببا أن أخرجت شخصية الإنسان وطبيعته في التعامل مع الآخرين في حياته الدنيا، وتعامله مع ربه ومدى التزامه بأوامره ونواهيه، فما يضمر الإنسان في نفسه لا يعلمه إلا الله، فالبشر لا يشاهدون إلا ظواهر الأمور من الإنسان أما نوازعه الداخلية فالله هو المطلع عليها، وفي ذلك اليوم يتم إظهار كل إنسان على ما كان عليه من طبيعته في داخل نفسه وحقيقة ما في قلبه وصدره، وبناء على ذلك يكتب للإنسان مصيره عند الله، فالله هو الرب الذي خلقهم وهو الذي يوميتهم ثم يحيهم، وهو الخبير بكل نفس بما كسبت من نوازع الخير والشر، فيعلم من كان من فعله الخير والصلاح وكان مسارعا إليه في الدنيا، وهو يعلم من كان من نفسه الميل للشر والفساد والمسارعة إليه لنشر فساده والانشغال به عن آخرته، فاليوم يوم للجزاء والحساب، والله أمهلهم ولم يغفل عنهم، فالإنسان الذي أشغل نفسه بالعدو وراء الفوز بالآخرة والنجاة من نارها، فكان يسارع في فعل الخيرات، ويسابق غيره كي يفوز ويفلح عند ربه، فاستغل كل لحظة من عمره ووجوده في الحياة الدنيا، فهو بعلمه بما عند الله قويُ ببصيرته ونور قلبه فزاد الخوف والرجاء في قلبه ومراقبته لنفسه أمام ربه، فعاش متفكرا بحقيقة الحياة وسرعة زوال نعيمها وأن ما عند الله خير وأبقى، كان متوقعا لموته وانتهاء أجله في كل لحظة، عاش مسابقا للزمن ولحظة وجود أنفاسه ساعيا وراء هدفه وهو النجاة من الدنيا والفوز بالآخرة، فكانت حركته لا تكون إلا مع الله، فهو متنقل من زاوية إلى أخرى ليعمر فيها أثرا إيمانيا يتركه لينبت نورا وسعادة للآخرين، أما الآخر فقد اشغل عمره بالعدو وراء الشهوات والتعلق بطول الأمل وبُعد قدوم الموت والساعة، أو لعله نسيها ولم يدع لعقله التفكر والتدبر أو الإيمان حتى بإمكانية وجودها، فعاش في أمن مع نفسه بجوار دنياه وجعل حركته لا تكون إلا بعيدا عما يرضي الله، بل لإرضاء شهواته، فاطمئن قلبه طمأنينة زائفه، فالنعيم من حوله في كل شئ، ولن يزول عنه بهذه السرعه كما ظن في نفسه، ولم يترقب مكر الله ولم يشغل قلبه في لحظة لقائه، فسارع وسابق لأجل أن يجمع ما يقدر من شهوات الدنيا وخيراتها، وأصبح من حرصه وحبه الشديد لا يلقي بالا للحقوق الآخرين من حوله وحق الله فيما اكتسبه، فملئ قلبه بخلا وجشعا وحبا للذات والشهوات، فقيدته تلك النفس بنوازعها عن رؤية الحق والعلم به، وانتشر غبار الجهل من حوله فحرم من نور البصيرة والمراقبة للنفس والحذر من مباغتة الموت، فيوم بعثه ستتكشف له الحقائق وتمسح غشاوة غبار الجهل والشهوات، فيبصر ما أنكره ويجده حقا، عندها لن ينفعه ماله ولا خيره الذي تنعم به وتأمل أن سيكون له حفظا من كل سوء ومكروه فزاد من طول أمله في الدنيا وبعده عند تذكر زوالها في أي لحظة، هذا الإنسان يعتبر في قمة الجهل والظلم لنفسه، فهو من سبب لنفسه الحرمان من النعيم وما أعده الله له لو أحسن في دنياه وأدى حق ربه، ولعله عاش حياته الدنيا مع نعيمه القصير وسريع الزوال في غم وهم ونكد ولم يستطعم حلاوته بسب نسيان ربه، فالآن هو محروم من متعة نعيم الدنيا بتذوقه مع الطاعة، ومحروم من حلاوة النعيم الدائم عند الله.
من أهم الفوائد في هذه السورة لتربية النفس الإنسانية على قوة الإيمان والثبات هو:
- المسارعة والمسابقة لكسب الوقت (تنظيم الوقت).
- الحذر الدائم والترقب للأخطار الخارجية والداخلية.
- الاستعداد بالعلم للقدرة على بذل الطاقة واللحاق بالسبق.
- مراقبة النفس وتعديل سلوكها السلبي.
- عدم الأمن الدائم ونسيان مكر الله.
- التدبر في نعم الله وشكره عليها.
- الهمة العالية وعدم التكاسل والتغافل.
- عدم الركون للدنيا والاعتماد عليها.
- البذل والكرم في العطاء في سبيل الله.