ثالثا: ومن حيث الزمن: أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة إليه" (7).
إذن، فالتحديد الدقيق لإطار التحدي و (إعجاز القرآن) يستوجب تحديد ما يدخل في حدود قدرة الإنس والجن، وما يخرج عن دائرة قدرتهم، ويكون في نفس الوقت صفة ملازمة للقرآن عبر العصور والأجيال، يدركها العربي إما بذوقه الفطري أو بتذوقه العلمي، ويدركها أيضا غير العربي بأبعاد أخرى.
فما الذي يمكن أن يدعى الإنس والجن للاجتماع والتعاون والتآزر للقيام به، فيعجزون عليه؟ من الواضح أن الأمر متعلق بالمعرفة والحضارة، ليس بجانبها اللغوي فقط، وإنما بمختلف أبعادها: اللغة والبيان، التشريع الاجتماعي، النظام الأخلاقي، البناء الحضاري، إضافة إلى علم الغيب الذي يعجز الإنسان على الإحاطة به، ونقصد به: خبر الأولين، وعلم الساعة، والحياة بعد الموت، والكائنات غير المرئية.
فالتحدي القرآني متعلق بإتقانه وإحكامه في كل النواحي: شكلا ونظما، ومضمونا وخطابا، ودفعا وتأثيرا، ومرونة وتفاعلا مع ظروف البشر الذين يخاطبهم ومتغيرات بيئتهم الزمنية والمكانية ?فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ? [سورة الملك:3 - 4]، مما تعجز البشرية مجتمعة عن الإتيان مثله، أيا كانت تجاربها وخبراتها العلمية والفكرية والحضارية.
هذا ما يقود إلى الميل للقول بأن التحدي القرآني يكمن أساسا في تعبيره عن ثلاثة أبعاد:
• العلم المطلق (في مقابل محدودية العلم البشري)،
• العدل المطلق،
• الإحسان المطلق (بمعنى الإتقان والإحكام في الصنعة والأداء).
هذه الأبعاد الثلاثة هي التي تمثل في رأينا مناط التحدي العام ومفصل الإعجاز في الخطاب القرآني.
في مقابل ذلك، من الملاحظ أن القيم الأساسية التي يدعو إليها الخطاب القرآني تدور حول ثلاثة أصول جامعة هي: التوحيد، والتزكية، والعمران (8). وقد عبّر الخطاب النبوي عن هذه القيم الأساسية في حديث (شعب الإيمان): "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله [التوحيد]. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق [العمران]. والحياء شعبة من الإيمان [التزكية] " (9).
ويقود هذا إلى الميل للقول بوجود نوع من التقابل بين هذه الأصول وبين أبعاد التحدي المذكورة: حيث أن الإنسان مطالب بالسعي والكدح لتحقيق أقصى ما يمكن له تحقيقه، مع التسليم بعجزه عن بلوغ الكمال:
• التوحيد في مقابل العلم المطلق
• التزكية في مقابل العدل المطلق
• العمران في مقابل الإحسان المطلق
ويعتمد البحث في هذا المسلك على النص القرآني، إضافة إلى أدوات من الاختصاصات التالية: تاريخ القرآن، علوم القرآن، علوم الحديث، علم تراجم الرجال، علوم اللغة، علوم البلاغة، الشعر الجاهلي، علم التفسير، السيرة النبوية، النقد الأدبي ...
هذا هو، إذن، المدخل لدراسة القرآن الكريم ولأي عمل موسوعي حول القرآن الكريم.
الهوامش:
1 - انظر كتاب (الدين)، محمد عبد الله دراز
2 - من بين المهتمين بهذا المسلك وعلاقته بمسائل الإيمان: هارون يحي في كثيرمن كتبه، وموريس بوكاي في كتابه (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم)، وفرنسيس كولينز في كتابه (لغة الله The Language of God) وأرماند نيكولاي في (مسألة الألوهية The Question of God) وروبرت وينستون في كتابه (قصة الله: The story of God).
3- يعتبر (قصة الإيمان) لنديم الجسر و (كبرى اليقينيات الكونية) لمحمد سعيد رمضان البوطي، و (موقف العقل والعلم والدين من رب العالمين وعباده المرسلين) لمصطفى صبري من أبرز الكتابات الإسلامية التي غطت هذا المبحث.
4 - انظر (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي، (الدين) لمحمد عبد الله دراز
5 - انظر (مصدر القرآن)، إبراهيم عوض
6 - محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم: ص 67 - 68
7 - مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية:64 - 65
8 - طه جابر العلواني، التوحيد والتزكية والعمران، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، بيروت، ع16 - 17، 2001
9 - رواه مسلم، في المسند الصحيح: 35.
** جزء من بحث بعنوان: "منهجية تعاونية لإنجاز (موسوعة إلكترونية شاملة للقرآن الكريم وعلومه) " - مقدم لندوة (القرآن الكريم والتقنيات المعاصرة)، التي أقامها مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشّريف، بالمدينة المنورة سنة 2009
ـ[مركز تفسير]ــــــــ[09 Sep 2010, 05:24 ص]ـ
تم ترشيح هذا الموضوع ضمن مسابقة الملتقى، يمكنك أخي العضو التصويت عليه أعلاه
ـ[أبو تيماء]ــــــــ[09 Sep 2010, 05:56 ص]ـ
ومن أعظم مظاهر إعجازه ..
أن الدارس لتلك المسالك، والباحث عن إلإجابات لهذه التساؤلات وغيرها
يمكنه استنباطها واستخراجها من هذا الكتاب نفسه!
نعم قد يجهلها من يجهلها، ويظهر للبعض ما لا يظهر للآخر
((( .. وفوق كل ذي علم عليم)))