تأمل معي في سورة الواقعة عند ذكر ربنا سبحانه وتعالى بعض نعمِه , وامتنانه بها علينا .. وعدّ منها النار فقال: (أفرأيتم النار التي تورون؟) ولو سألنا عن فوائد هذه النار , ولماذا خلقها الله؟ وعَدّها من نِعمه التي يمتن بها علينا؟ فبمِ سنجيب؟ إن جواب القرآن عن أهمية هذه النار التي بين أيدينا لمدهش حقًا حين يبدأ بذكر فائدة معنوية دينية , ويقدمها على الفائدة الحسية الملموسة والتي تسبق إلى خاطر كل من سُئل عن فائدة النار, حيث يقول: (نحن جعلناها تذكرة .. ) أي لنتذكر عند رؤيتها نار الآخرة فإذا رآها الرائي ذكر نار جهنم، وما يُخاف من عذابها، فاستجار بالله منها, قال مجاهد، وقتادة: أي تُذَكّر النارَ الكبرى (تفسير ابن كثير) , وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن (فتح القدير).
ثم ذكر بعدها الفائدة الحسية الملموسة فقال (ومتاعًا للمقوين) قال مجاهد: أي للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار , وقيل للمستمتعين، أي الناس أجمعين (ابن كثير).
سل نفسك .. هل فكرت يومًا أن تقتني موقدًا , أو توقد نارًا , أو تنظر إلى نار مشتعلة لتتذكر بها نار الآخرة؟ إن القرآن أراد منك أن تَعبُر بخاطرك وشعورك من خلال مشاهدة نار الدنيا .. لترى نار الآخرة فتستعيذ بالله منها وتجدّ في الفرار منها ...
2/ اللباس:
لما ذكر الله اللباس وذكَّر بنعمته علينا في ستر عوراتنا به ( .. قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا) أتبعه بذكر اللباس الحقيقي للروح قبل الجسد فقال: (ولباس التقوى ذلك خير) .. وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال أوردها ابن الجوزي في زاد المسير , أحدها: أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان.
والثاني: العمل الصالح، قاله ابن عباس.
والثالث: الإيمان، قاله قتادة وعلى هذا، سمي لباس التقوى، لأنه يقي العذاب.
والرابع: خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير.
والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الانباري.
والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد.
والسابع: الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي.
والثامن: العفاف، قاله ابن السائب.
والتاسع: أنه ما يُتَّقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر.
والعاشر: أن المعنى: ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة، خير مما يلبسه أهل الدنيا , قاله عطاء.
تأمل كيف يرتقي بك القرآن لتتجاوز مجرد الستر الظاهري للجسد بقطعة قماش تبلى وتتغير .. إلى سترٍ أعمق وأجدر بالاهتمام يستر الروح والجوهر بلباس التقوى والايمان والعفة والحياء والخشية والسمت الحسن والخلق الرفيع ...
تذكر! وأنت ترتدي ثبابك , وتستر سوءتك , أنك ربما تكون عاريًا بتجردك عن لباس التقوى بكبيرة ارتكبتها, أو سيئة اقترفتها , أوحرام أكلته , أوفرض أهملته , أو فضل تركته .... عندها ستبادر إلى الإستغفار والتوبة ليكتمل سترك وتحلُو صورتك ...
من هنا يربي القرآن أهله على الاهتمام بمآلات الأمور ومقاصدها وغاياتها ,ويصحح قلوبهم وعقولهم , ويوسع مداركهم ... بينما يعبث غيرهم بالقشور والمظاهر الخادعة والصور الزائفة!
3/ زاد المسافر وقُوتُه:
قال ابن عباس:كان نَاس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا .. } (البقرة 197) قال ابن عمر: أُمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق .. ومع الأمر بالتزود عند السفر للحج أو غيره وبالأخذ بأسباب النجاة لقطع مفازة الطريق ليصل المسافر إلى مقصوده ومبتغاه , ذكّر الله عباده بوجوب الأخذ بالزاد الحقيقي لكل مسافر من هذه الدنيا إلى الآخرة فقال: (وتزودوا .. فإن خير الزاد التقوى)
قال ابن كثير: "لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها".
وقيل: هو إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد، فإن خير الزاد التقوى، وقيل المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفف (فتح القدير للشوكاني)
إن التقوى .. هو الزاد الحقيقي للنجاة , وقطع مفازة الدنيا إلى الآخرة , وهو زاد القلوب والأرواح .. منه تقتات .. وبه تتقوى وترف وتُشرق .. وعليه تستند في الوصول والنجاة .. وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد ..
¥