تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلب المؤمن.

فمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهايةالإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأَنِسَ به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه، كما قال بعضهم: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك ... )

إلى أن قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنك تراه)) إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه. وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية - فهو زعم باطل).

وهذا الذي ذكره هو ما يسمى بالمثال العلمي، وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً في مواضع من كتبه، ومن أفضل من عبر عنه فيما اطلعت عليه ابن القيم رحمه الله تعالى إذ قال في كتابه شفاء العليل: (إذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان وحقائق العبودية وما يصححها ومايفسدها وتفاوت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور.

قال تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}

وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به}

فيكشفلقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلبالعبد المؤمن؛ فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا أكبرَ من كل شيء في ذاته وفيصفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر علىأصبع، والثرى على أصبع، ثم يهزُّهن ثم يقول: أنا الملك.

فالسماوات السبع في كفِّه كخردلة في كف العبد، يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولايدركونه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًا واحدًا ما أحاطوا به سبحانه.

ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كلجواد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهمعلى شخص واحد منهم ثم أعطى الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الربسبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.

ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحدمنهم ثم أعطى كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش.

ولو كان جودهم على رجل واحد وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.

وكذلك علم الخلائق إذا نسبة إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.

وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته فلو فرض البحر المحيط بالأرض مداد تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام لفني ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفد.

فهوأكبر في علمه من كل عالم وفي قدرته من كل قادر، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي علوه من كل عالٍ، وفي رحمته من كل رحيم.

استوى على عرشه واستولى على خلقه، متفرد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ولا منع ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضر إلا بيده، لا مالك غيره ولا مدبر سواه، لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا له شركة في ملكها، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعيَا فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء؛ فهو أول مشاهد المعرفة، ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإلهية؛ فيشهده سبحانه متجلياً في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه فيشهد ربًّا قيومًا متكلمًا آمرًا ناهيًا، يحب ويبغض ويرضى ويغضب، قد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدى من يشاء منه نعمة وفضلاً، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلاً، يُنزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سدًى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم حُكْمٌ وأمر في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ ولحظةٍ ولفظةٍ.

وَينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه وأحكامه، وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم، قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفِطَر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة، وينكشف له فيضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال، وإن كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزه متعالٍ عنه.

وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به؛ فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا ولا منفذًا، والله الموفق المعين.

وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام}).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير