تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...

وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته

فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول:

لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا

ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى:

ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا

قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ

وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد

أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ

وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ

ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله؟) ومن رائق شعره قوله:

وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا

دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا

وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا

إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا

ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية: (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ... ) ومن شعره

في الذاهبين الأوّلـ ينَ من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر

أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر

ولورقة بن نوفل قوله:

لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ

فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته؟ أبدا لن تدرك ذلك!!! ولم يقل أحد بذلك!!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر ... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...

ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم

نقطة أخرى تؤكّد أنّ معارضة كلام البشر الناقص لكلام الباري الكامل والمعجز هي التي استوجبت هذا الشعور الذي لا يفارق معارضات القرآن عبر مختلف الأزمان ... إنّنا إذا نظرنا في النصوص العربية الإسلامية الشعرية منها والنثرية نجدها معبّأة بالاقتباس من كتاب الله عزّ وجلّ ونلاحظ أنّ هذا الاقتباس ــ وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما يفعله المعارضون ــ يزيد النصّ جمالاً من جهة الألفاظ المستعملة والتي تترك في النفس أثراً بليغًا ووقعا جميلاً كما تزيده قوّة وتوثيقا من جهة الأفكار والمعاني المقتبسة

سأنقل ها هنا نماذج لشاعر معاصر يكثر من الاقتباس القرآني إلى درجة أنّه يستعمل في كثير من الأحيان آيات كاملة وأجزاء كبيرة منها في أشعاره وهو الأستاذ أحمد مطر:

يقول في قصيدة قلّة أدب:

قرأتُ في القرآنِ

"تبّت يدا أبي لهب "

فأعلنت وسائل الإذعانِ

"إنّ السكوت من ذهب"

أحببتُ فقري ... لم أزل أتلو:

"وتبّ

ما أغنى عنه ماله وما كسب"

فصودرت حنجرتي

بجرم قلّة الأدب

وصودر القرآن

لأنّه حرضني على الشغب

وفي قصيدة له بعنوان: فبأيّ آلاء الشعوب تكذبان

غفتْ الحرائق ...

أسبلت أجفانها سحب الدخان

الكلّ فان

لم يبق إلاّ وجه ربّك ذي الجلال واللجان

ولقد تفجرَ شاجبا ومنددا ولقد أدان

فبأيّ آلاء الولاة تكذبان!

وله الجواري الثائرات بكلّ حان

وله القيان

وله الإذاعة

دجن المذياع لقّنه البيان

الحقّ يرجع بالربابة والكمان

فبأيّ آلاء الولاة تكذبان

وله أيضا:

والعصر ...

إنّ الإنسان لفي خسر

في هذا العصر

فإذا الصبح تنفس

أذّنَ في الطرقات نباحُ كلاب القصر

قبل أذان الفجر

وانغلقت أبواب اليتامى ...

وانفتحت أبواب القبر

والأمثلة والشواهد كثيرة وما يهمنا منها هو رغم هذا الاقتباس الكثير من القرآن ورغم هذا التشابه الكبير مع المعارضات التي سبق ذكرها فإننا لا نجد هذا الشعور بالفكاهة والاستهزاء والتحقير الذي نجده في المعارضات والسبب هو عدم مقابلتها بالقرآن الكريم ...

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير