جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) [ص]
فذكر فى ثنايا القصة: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وقال فى ختام القصة: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. فقوله: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ناظر إلى قوله: كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أي إن بغي الخلطاء بعضهم على بعض هو من الفساد فى الأرض. والمراد بالخلطاء الذين تجمعهم شركة فى المال والمصالح من أي نوع كانت. والمعنى أن عمران الأرض قائم على أساس الشركة فى المال والمصالح وتظافر الجهود، فإذا دخل البغي وأفسد العلاقات، فإن ذلك يؤدي إلى الفساد فى الأرض، ويبطل مقصد العمران. ويؤيد ذلك ما جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مرفوعا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا [7] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftn7).
مبدأ "قد علم كل أناس مشربهم"
لقد ذكرالله تعالى فى سورة البقرة في سياق النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وفى الآية إشارة إلى أن الماء إذا تم قسمته الواضحة العادلة فلا مبرر للنزاع حول الماء والاعتداء على حصة الغير، حيث مقتضى القسمة العادلة أن يعرف كل حقه ولايتجاوزه إلى غيره.
وبناء على المبدأ المنبثق من الآية، يحق أن نقول إن الموارد الاقتصادية إذا تمت قسمتها العادلة ونالت القسمة احتراما وامتثالا من الجميع فإن ذلك يغلق بابا من أبواب الفساد فى الأرض.
وإن كانت بعض الدول ذات قوة لم تقتنع بمواردها الاقتصادية ولاسيما الطبيعية منها المتوفرة فى منطقتها وتوغلت فى مناطق أخرى وسيطرت على مواردها وحرمت أهلها منها فإن هذا الاستعمار الاقتصادي فساد فى الأرض وإن كان باسم التجارة الحرة والاستثمار الحر.
إن المبدأ المنبثق من "قد علم كل أناس مشربهم" مبدأ عظيم من رب رحيم ويجب أن يطبق على كل المستويات من مائدة طعام بسيطة إلى سياسات واتفاقيات دولية.
والجدير بالذكر أن بني إسرائيل هم أول من تم تلقينهم بهذا المبدأ، وهم مع أقرانهم أكثر الشعوب انتهاكا لحرمة هذا المبدأ، ولسان حالهم يقول: مهما انفجرت العيون وتكاثرت، فلن نسمح لأحد أن ينهل من مورد.
صلة الرحم عمران وقطع الرحم فساد
والفساد فى الأرض له صلة بقطع الرحم، وهذه الصلة واضحة جدا فى ثلاث مواضع من القرآن الكريم وهي كالتالي:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) [البقرة]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) [الرعد]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) [محمد]
ونظام الآيات يدل على أن صلة الرحم له تأثير إيجابي كبير على عمران الأرض، كما أن القطيعة إعلان بالفساد. وصلة الرحم باب عظيم من الاقتصاد الإسلامي، فإن المجتمع الذي أنشئ على الإحسان إلى الأقربين والإنفاق على المحتاجين، وقويت فيه قيمة صلة الأرحام، لا يكون فى حاجة إلى نظام التأمين الصناعي القائم فى التسويق على متاجرة الخوف، واستغلال الضعف النفسي عند البشر. فهل آن للبشرية أن تعيد النظر فيما أفسد أمرها وأوهن عظمها وأسلمها للذل والهوان؟ وهل آن لها ان تقارن بين النظامين، نظام التكافل الإسلامي الطبيعي ونظام التأمين التجاري.
ــــــ
[1] القاموس المحيط، فسد
[2] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref2) تاج العروس، فسد
[3] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref3) تفسير المنار 12/ 200
[4] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref4) تفسير ابن كثير: دار طيبة (6/ 199)
[5] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref5) فى ظلال القرآن (5/ 2710)
[6] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref6) تفسير الإمام عبد الحميد الفراهي تفسير سورة الروم
[7] ( http://tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref7) باب فى الشركة، سنن أبي داود.
¥