والإجابة عن السؤال المطروح، لمسها الصحابة وقت نزول القرآن واقعاً لا نظرية، وذلك أن الصحابة - رضى الله عنهم - كانوا من قبائل عديدة، وأماكن مختلفة، وكما هو معروف أنه كما تختلف العادات والطباع باختلاف البيئات، فهكذا اللغة أيضاً، إذ تنفرد كل بيئة ببعض الألفاظ التى قد لا تتوارد على لهجات بيئات أخرى، مع أن هذه البيئات جميعها تنضوى داخل إطار لغة واحدة، وهكذا كان الأمر، الصحابة عرب خلص بيد أن اختلاف قبائلهم ومواطنهم أدى إلى انفراد كل قبيلة ببعض الألفاظ التى قد لا تعرفها القبائل الأخرى مع أن الجميع عرب، والقرآن الكريم جاء يخاطب الجميع، لذلك راعى القرآن الكريم هذا الأمر، فجاءت قراءاته المتعددة موائمة لمجموع من يتلقون القرآن، فالتيسير على الأمة، والتهوين عليها هو السبب فى تعدد القراءات.
والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك:
جاء فى الصحيحين - عن ابن عباس رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أقرأنى جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف" ()، وزاد مسلم: " قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا يختلف فى حلال ولا حرام" ()
وأخرج مسلم بسنده عن أبى بن كعب، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان عند أَضَاة بنى غفار () قال: " فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا" ()
والأحاديث الواردة فى هذا المقام كثيرة، لكنى أكتفى بما ذكرت، والمزيد فى مظانه، ويؤخذ من ذلك ما يلى:
1. إن الأحرف السبعة جميعها قرآن نزل من عند الله، لا مجال للاجتهاد فيها.
2. أن السبب فى هذه التوسعة هو التهوين على الأمة، والتيسير عليها فى قراءة القرآن الكريم.
المراد بالأحرف السبعة:
أقوال عديدة ساقها العلماء حول مفهوم الأحرف السبعة، التى تواترت الأحاديث فى إثبات أن القرآن نزل عليها، الأمر الذى جعل بعض العلماء يفر من ميدان النزال، ويقول: إن الحديث مشكل.
أقول: الأقوال الواردة فى هذا المقام أكثرها لا تستحق لضعفها أن نعول عليها فى مقامنا هذا، ويكفينا هنا أن نشير إلى ما يستحق الذكر، ويستأهل أن ينظر إليه بعين الاعتبار، وذلك متوافر فى رأيين:
أحدهما: هو ما ذكره أبو الفضل الرازى وقاربه فيه كل من ابن قتيبة وابن الجزرى.
وحاصله أن الأحرف السبعة هى سبعة أوجه لا يخرج عنها الاختلاف فى القراءات وهى:
1 - اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.
2 - اختلاف تصريف الأفعال من ماضى ومضارع وأمر.
3 - اختلاف وجوه الإعراب.
4 - الاختلاف بالنقص والزيادة.
5 - الاختلاف بالتقديم والتأخير.
6 - الاختلاف بالإبدال.
7 - اختلاف اللغات - أى اللهجات - كالفتح والإمالة، والتفخيم، والترقيق، والإظهار والإدغام.
وقد تعصب لهذا الرأى صاحب المناهل وساق الأمثلة لكل وجه من الوجوه المذكورة، ورجحه على غيره مقرراً أنه الرأى الذى تؤيده الأحاديث الواردة فى المقام، وأنه الرأى المعتمد على الاستقراء التام دون غيره ……… ()، وقد دافع عنه أيما دفاع بالرد على كل اعتراض وجه إليه، وإن بدا عليه التكلف فى بعض هذه الردود، ومن ذلك رده على الاعتراض الثالث الذى وجه إليه.
وحاصل الاعتراض أن الرخصة فى التيسير على الأمة بناءً على هذا الرأى غير واضحة، فأين اليسر فى قراءة الفعل المبنى للمجهول أو للمعلوم؟ هنا ظهر التكلف على الشيخ فى الرد () - من وجهة نظرى-.
وثانيهما: وهو ما ذهب إليه سفيان بن عيينة، وابن جرير، وابن وهب، والقرطبى، ونسبه ابن عبدالبر لأكثر العلماء ()
¥