مسألة اختلاف القراءات وتعددها، كانت ولا زالت محل اهتمام العلماء، ومن اهتمامهم بها بحثهم عن الحكم والفوائد المترتبة عليها، وهى عديدة نذكر الآن بعضاً منها، فأقول - وبالله التوفيق-: إن من الحكم المترتبة على اختلاف القراءات ما يلى:-
1) التيسير على الأمة الإسلامية، ونخص منها الأمة العربية التى شوفهت بالقرآن، فقد نزل القرآن الكريم باللسان العربى، والعرب يومئذٍ قبائل كثيرة، مختلفة اللهجات، فراعى القرآن الكريم ذلك، فيما تختلف فيه لهجات هذه القبائل، فأنزل فيه - أى بين قراءاته - ما يواكب هذه القبائل -على تعددها - دفعاً للمشقة عنهم، وبذلاً لليسر والتهوين عليهم.
2) الجمع بين حكمين مختلفين مثل قوله تعالى: ((فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)) ()، حيث قرئ ((يطهرن)) بتخفيف الطاء وتشديدها، ومجوع القراءتين يفيد أن الحائض، لا يجوز أن يقربها زوجها إلا إذا طهرت بأمرين: أ- انقطاع الدم، ب- الاغتسال.
3) الدلالة على حكمين شرعيين فى حالين مختلفين، ومثال ذلك قوله تعالى: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)) () حيث قرئ ((وأرجلكم)) بالنصب عطفاً على ((وجوهكم)) وهى تقتضى غسل الأرجل، لعطفها على مغسول وهى الوجوه. وقرئ ((وأرجِلكم)) بالجر عطفاً على ((رءوسكم)) وهذه القراءة تقتضى مسح الأرجل، لعطفها على ممسوح وهو الرءوس. وفى ذلك إقرار لحكم المسح على الخفين.
4) دفع توهم ما ليس مراداً: ومثال ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)) () حيث قرئ ((فامضوا إلى ذكر الله))، وفى ذلك دفع لتوهم وجوب السرعة فى المشى إلى صلاة الجمعة المفهوم من القراءة الأولى، حيث بينت القراءة الثانية أن المراد مجرد الذهاب. ()
5) إظهار كمال الإعجاز بغاية الإيجاز، حيث إن كل قراءة مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، وذلك من دلائل الإعجاز فى القرآن الكريم، حيث دلت كل قراءة على ما تدل عليه آية مستقلة.
6) اتصال سند هذه القراءات علامة على اتصال الأمة بالسند الإلهى، فإن قراءة اللفظ الواحد بقراءات مختلفة، مع اتحاد خطه وخلوه من النقط والشكل، إنما يتوقف على السماع والتلقى والرواية، بل بعد نقط المصحف وشكله؛ لأن الألفاظ إنما نقطت وشكلت فى المصحف على وجه واحد فقط، وباقى الأوجه متوقف على السند والرواية إلى يومنا هذا. وفى ذلك منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بسبب إسنادها كتاب ربها، واتصال هذا السند بالسند الإلهى، فكان ذلك تخصيصاً بالفضل لهذه الأمة. ()
7) فى تعدد القراءات تعظيم لأجر الأمة فى حفظها والعناية بجمعها ونقلها بأمانة إلى غيرهم، ونقلها بضبطها مع كمال العناية بهذا الضبط إلى الحد الذى حاز الإعجاب ()
درء الشبهات المثارة حول اختلاف القراءات
لا يزال المغرضون يتحينون الفرص للغض من قدر القرآن الكريم، بمحاولة إثبات التناقض فى القرآن من خلال بعض ما يثبته أو ينفيه، يحاولون ذلك مع آيات القرآن الكريم بعضها مع بعض، أو يدّعون وجود التناقض بين القرآن والسنة، وكل ذلك مردود عليهم بفضل الله كما أشرت إلى ذلك فى مقدمة هذا الكتاب، ولسوف ترى فيه إن شاء الله شيئاً من ذلك فى المبحث الأخير منه.
وفى مقام اختلاف القراءات الذى نحن بصدده أو ادعى الحاقدون وتبعهم الجاهلون من اتباع هذا الدين، وهم أخطر على هذا الدين كما قيل:
لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يباغ الجاهل من نفسه
أقول: ادعى هؤلاء وأولئك أن اختلاف القراءات يثبت كذب القرآن ويقرر وجود التناقض فيه.
قلنا: وكيف وصلتم إلى هذا القرار واجترأتم على أن تقولوا هذا الكلام الذى ((تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً)) () من هول ما يحمل؟
قالوا: أليس قد جاء فى القرآن - قوله تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) () قلنا: بلى.
قالوا: ألستم تقولون إن القراءات توقيفية نازلة من عند الله عن طريق الوحى؟ قلنا: بلى.
قالوا: أليست هذه القراءات متعددة؟ قلنا: بلى.
قالوا: أليس فى تعددها واختلافها ما يتعارض والآية القرآنية التى نفت الاختلاف عن القرآن؟
¥