قلنا: كلا. قالوا: كيف تدفعون هذا التعارض وتثبتون نقيض الدعوى؟ قلنا: هو سهل ميسور وتقرير الجواب كالتالى:
إن الاختلاف الذى ينفيه القرآن هو الاختلاف فى ذات القرآن بما تحمله آياته من معان، إذ لا اضطراب فيها ولا تعارض ولا تناقض، وكل ما أوهم ذلك قد أجاب عنه العلماء بما لا يدع مجالاً لعرضه مرة أخرى، وقد قلت فى مقدمة هذا الكتاب: لا يرد على ذلك الناسخ والمنسوخ، فالتعارض بينها مدفوع بإثبات الحكم الناسخ ونفى وإلغاء الحكم المنسوخ. فتحصل من خلال ذلك أن التناقض والتدافع بين معانى القرآن الكريم غير موجود، وهذا هو الذى تقرره الآية الكريمة.
وأما اختلاف القراءات، وكون القرآن الكريم قد نزل على سبعة أحرف فهو تنوع من ألفاظ القرآن وتوسعة فى النطق به وتعدد فى وجوه الأداء، دون أن يثبت ذلك اختلافاً فى القرآن، ليس هذا فقط بل إن لتعدد القراءات فوائد جمة، قد ذكرت فى محلها، هذه الفوائد لا تنفى عن القراءات فقط كونها سلبية، بل تثبت لها جوانب إيجابية عديدة.
يقول الشيخ الزقانى:
إن نزول القرآن على سبعة أحرف - وتعدد وجوه قراءاته - لا يلزم منه تناقض ولا تخاذل ولا تعارض ولا تضاد ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه، وتعليمه ومراميه، بعضها مع بعض، بل القرآن كله سلسلة واحدة، متصلة الحلقات، محكمة السور والآيات، متآخذة المبادئ والغايات، مهما تعددت طرق قراءاته، ومهما تنوعت فنون أدائه. ()
ويتمم الجواب عن هذه الشبهة والرد عليها جواب الإمام الغزالى وقد سئل عن معنى قوله تعالى: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) فأجاب بما صورته:
الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفى اختلاف والناس فيه، بل نفى الاختلاف عن ذات القرآن. يقال هذا كلام مختلف فيه، أى: لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة، إذ هو مختلف، أى: بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر، وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه.
وكلام الله منزه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره، وعلى مرتبة واحدة فى غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين. أ. هـ ()
وقريب من هذا ما نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه:
" لا تنازعوا فى القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا ينفد لكثرة الرد، وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه، ولو كان شئ من الحرفين -أى القراءتين - ينهى عن شئ يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شئ من شرائع الإسلام.
ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا فنقرأ فيخبرنا أن كلنا محسن… .. " ()
وملخص هذا الجواب أن الاختلاف المنفى فى الآية هو الاختلاف بمعنى تباين النظم، وتناقض الحقائق، وتعارض الأخبار، وتضارب المعانى. وأما اختلاف القراءات فهو التنوع فى الأداء والتوسع فى النطق فى إطار ما نزل من عند الله.
الشبهة الثانية:
قالوا كذلك:
إن الاختلاف فى القراءات يوقع فى شك وريب من القرآن، إذا لاحظنا فى بعض الروايات معنى تخيير الشخص أن يأتى من عنده باللفظ وما يرادفه أو باللفظ ومالا يضاده فى المعنى، وذلك كحديث أبى بكرة حيث فيه: "كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال، وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، وعجل" جاء بهذا اللفظ من رواية أحمد بإسناد جيد 00 وجاء عن ابن مسعود - رضى الله عنه - أنه أقرأ رجلاً: ((إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)) () فقال الرجل: طعام اليثيم، فردها عليه فلم يستقم بها لسانه. فقال: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم. قال: فافعل.
الجواب عن هذه الشبهة
إننا لا نسلم لهم أولاً: دعوى أن الشخص كان مخيراً بأن يأتى من عند نفسه بألفاظ يختارها تعبيراً عن الآية، فجميع القراءات نازلة من عند الله بالوحى، والحديث المذكور لا يدل على ما ذهبوا إليه وسيأتى تأويله فى مبحث الوقف والابتداء، وإذا لم نسلم لهم هذا فلن نسلم كذلك أن هذه القراءات كانت سبباً فى وقوع الشك والريب من القرآن؛ لأن القراءات ما دامت نازلة من عند الله فلا يمكن أن تكون سبباً فى الريب من القرآن الذى هو من عند الله كذلك.
وأما بالنسبة للروايات المذكورة فغاية ما تدل عليه كما يقول الشيخ الزرقانى: أن الله تعالى وسع على عباده خصوصاً فى مبدأ عهدهم بالوحى أن يقرأوا القرآن بما تلين به ألسنتهم، وكان من جملة هذه التوسعة القراءة بمترادفات من اللفظ الواحد للمعنى الواحد مع ملاحظة أن الجميع نازل من عند الله تعالى، ثم نسخ الله ما شاء أن ينسخ بعد ذلك 000 وقد أجمعت الأمة على أنه لا مدخل لبشر فى نظم القرآن لا من ناحية ألفاظه، ولا من ناحية أسلوبه ولا قانون أدائه".
¥