وقد وتوسَّعَ بعض العلماء في إيرادِ شُبهِهم وردِّهَا (3). وليسَ بذكرِ الخلاف معهم طائل، وما أجْمَلَ كلامَ الشوكانيِّ رحمه الله حيثُ قال:" وأمّا الجوازَ فَلَمْ يُحْكَ الخلافُ فيه إلاَّ عن اليهودِ،وليسَ لنا إلى نَصْبِ الخلافِ بيننا وبينهم حاجةٌ، ولا هذه بأوَّلِ مسألةٍ خالفوا فيها أحكامَ الإسلامِ حتّى يُذْكَرَ خلافهم في هذه المسألةِ، ولكن هذا مِن غرائبِ أهل الأصول ". (4)
و النسخَ جائزٌ عقلاً وثابتٌ شَرْعًا، فقد دَلَّت الأدلّةُ المتظافرةُ على جوازه عقلاً وثبوته شرْعًا (5).
بل نقلَ ابنُ الجوزيِّ رحمه الله إجماعَ أهل العلمِ على ذلكَ؛ فقالَ:" انعقدَ إجماعُ أهلِ العلم على هذا؛ إلاّ أنّه قد شَذَّ مَن لا يُلتفت إليه " (6)، وكذا ابنُ كثيرٍ نقلَ اتّفاقَ المسلمينَ على جوازه (7)، بل حَكَى الشوكانيُّ اتّفاقَ أهلِ الشرائعِ عليه. (8)
وأما الأحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد نفي دلالة الآية على نسخ الأحكام الشرعية كما ذهب إليه الأخ أبو علي واستند على أمرين:
الأول: قرينة عجز الآية (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ,إذ لو كانت الآية تعني نسخ آيات الأحكام لختمت الآية بما يناسب ذلك بأن تختم ب: ألم تعلم أن الله عليم حكيم.
الثاني: قرينة ما أتى بعدها: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ...
فاليهود سألوا موسى عليه السلام فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فهم تبدلوا الكفر بالإيمان، أي اشترطوا أن يروا الله جهرة لكي يؤمنوا. فالآية تعني نسخ معجزات الرسل لا نسخ الأحكام الشرعية وجواب ذلك ما يلي:
أولا ً: هذه الآية وما بعدها من الآيات توطئة لنسخ استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة , وبيت المقدس هي قبلة اليهود , ولذا تجد الآيات التي بعدها تحدثت عن أهل الكتاب , ويدل على هذا ما ذكره المفسرون من سبب نزول الآية , وتحويل القبلة حكم شرعي لا معجزة.
ثانياً: أهل اللسان من مفسري السلف وغيرهم , فهموا منه نسخ الأحكام الشرعية , كما هو بين لمن رجع إلى أقوالهم في تفسير هذه الآية.
ثالثاً: خاتمة الآية مناسبة لمضمونها من إرادة نسخ الأحكام الشرعية , يدل على ذلك ما ذكره المفسرون عند تفسير هذه الآية
قال ابن القيم: أخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية مايشاء ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء.
وقال ابن كثير عن هذه الآية والتي بعدها: يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء فله الخلق والأمر وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء ويسعد من يشاء ويشقي من ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء , ويبيح ما يشاء , ويحظر ما يشاء , وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ... الخ.
وأما الجواب عن الدليل الثاني وهو قوله: فاليهود سألوا موسى عليه السلام فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فهم تبدلوا الكفر بالإيمان، أي اشترطوا أن يروا الله جهرة لكي يؤمنوا.
فهو أن بني اسرائيل سألوا موسى عليه السلام مسائل كثيرة منها ما هو معجزة ومنها ما هو حكم شرعي يدل على ذلك ما ذكره المفسرون حول هذه الآية فليراجعها من شاء , فحصرها بسؤال واحد تحكم.
وفي الختام أنبه على أمرٍ مهم وهو أنه ليس كل ما يذكره المفسرون من النسخ مسلم فإن منهم من بالغ بالقولِ بالنسخِ حتّى جعلَ آيةَ السَّيْفِ وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} (التوبة: من الآية5) ناسِخَةً لمائةٍ وأربعٍ وعشرينَ.
والحق أن النسخ قليلٌ جداً قال السيوطيُّ في حديثه عن النسخِ:" وهو في الحقيقةِ قليلٌ جدًّا، وإنْ أَكْثَرَ الناسُ مِن تِعْدَادِ الآياتِ فيه ". (9) ثمّ قام بتحريرِ ما ثبتَ فيها النسخُ فأوصلها إلى عشرين آيةٍ.
أمّا الزرقانيُّ فقد تعرّضَ لثنتينِ وعشرينَ آية قَبِلَ النسخَ في اثنتي عشرة آية مِنها. (10)
أمّا د. مصطفى زيد وهو أَكْثَرُ مِن تعرّضَ لقضايا النسخِ وناقشها؛ فقد قرَّرَ أنّ الآياتِ التي صَحّتْ فيها دعوى النسخِ لا تَزِيدُ عن سِتِّ آياتٍ. (11)
أمّا الدهلويُّ رحمه الله؛ فقد بيّنَ أنّ النسخَ لا يَصِحُّ إلاّ في خَمْسِ آياتٍ (12)، وهو
أقلُّ عددٍ قِيلَ بِنَسْخِه فيما أعلم.
[ line]
( 1 ) انظر: إرشاد الفحول (3/ 618).
(2) المرجع السابق
(3) انظر: تقريب الوصول صـ (313)، تفسير ابن كثير (1/ 264)، مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 198) وما بعدها.
(4) إرشاد الفحول (3/ 618). وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 264).
(5) انظر الأدلّة مبسوطةً ومستوفاةً في: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 187) وما بعدها.
(6) انظر: نواسخ القرآن صـ (13).
(7) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 265).
(8) انظر: إرشاد الفحول (3/ 618).
(9) الإتقان في علوم القرآن (2/ 706) وما بعدها.
(10) انظر: مناهل العرفان (2/ 255) وما بعدها.
(11) انظر: مقدمة كتابه: النسخ في القرآن.
(12) انظر: الفوز الكبير في أصول التفسير صـ (60).
¥