العربية لاستعمالاته فيأتي بالمعجز البديع من البيان، ومنه الفواصل.
وسوف نكتفي هنا بشواهد على علاقة الإعراب بالفاصلة وأثره في صياغتها ودلالتها، ومن ذلك:
أ- التوطئة للفاصلة بما يمنع الفعل من النصب: قلنا إن كثيراً من الفواصل القرآنية جاءت بصورة الفعل المضارع المرفوع المسند إلى واو الجماعة بصيغتي" تفعلون ويفعلون " ولكي يتحقق الإيقاع بالمدّ والترنّم ينبغي أن يبقى الفعل مرفوعاً بثبوت النون، وحين يأتي الفعل في سياق كان حقه فيه النصب كما اعتاد العرب استعماله تأتي في التركيب توطئة تمنع الفعل من النصب، ومن ذلك:
-) كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ((البقرة:187)
-) انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ((الأنعام:128)
-) فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ((الأعراف:176)
ولو قيل في الأولى ليتقوا لانتصب الفعل وذهب الإيقاع، ولذا وطّئ لرفعه بلعل التي تفيد الرجاء عادة وتمنع الفعل من النصب بجعله مع فاعله في محل رفع خبراً لها، وهذه الصورة تتكرر في الفواصل كثيراً، وقد راجعت مواضع استعمال "لعل" بهذه الصورة المذكورة فوجدتها كثيرة، بل إن استعمال " لعل " بهذه الصورة هو الشائع في استعمالها في القرآن الكريم (6)
وقد تكرر لعل في الفاصلة لهذا السبب نفسه، ومن ذلك:
-) لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ((يوسف:46)
-) لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ((يوسف:62) قال الكرماني:" كرر لعل رعاية لفواصل الآي، إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال:"لعلي أرجع فيعلموا، بحذف النون على الجواب " (7)
وقد يُخالَف الاطراد الإعرابي في فاصلة ما لتحقيق الإيقاع وزيادة فائدة دلالية في سياقها، ومنه قوله تعالى في أهل الكتاب) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ((آل عمران:111) حيث جاء الفعل " ينصرون" مرفوعاً محققاً الإيقاع مع ما سبقه وماتلاه من الفواصل، ولكنه معطوف على فعل مجزوم هو جواب الشرط "يولوا " وكان حقه الجزم مثله بقياس النحاة، ولكنه ورد مرفوعاً، وفي علة ذلك يقول الزمخشري:"فإن قلت: هلاّ جُزم المعطوف في قوله"ثم لا ينصرون"؟ قلت: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل:ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت: لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً " (8) فالفعل بهذه الصورة حقق إيقاعاً في فاصلته، وأعطى دلالة جليلة القدر، وهذا من كمال بلاغة القرآن الكريم لمن يتذوق أسرار البيان الرفيع.
ب-التوطئة للفاصلة بما يعمل الرفع أو النصب: إذا كانت الفواصل مرفوعة مُهّد للفاصلة بما يعمل الرفع، وإذا كانت منصوبة مهّد لها بما يعمل النصب، هذا مع أن التركيب اللغوي قد يكون واحداً في الفاصلة كأن تكون "غفور رحيم " بالرفع أو "غفوراً رحيماً " بالنصب، فالمعنى فيهما واحد، ولكن الإيقاع مختلف، فالرفع حالة سكون، والنصب فيه التنوين ثم الوقف عليه فيصير حرف مدّ، وحين تكون فواصل السورة ساكنة كالنون والميم يأتي الرفع مثل:
-) إن الله غفور رحيم ((البقرة:192).
-) والله غفور رحيم ((الأنفال:70)
وحين تكون فواصل السورة منصوبة يستعمل القرآن إمكانات النصب المتعددة في العربية لتحقيق النصب في الفاصلة، ومنه:
-) إن الله كان غفوراً رحيماً ((النساء:43)
-) وكان الله غفوراً رحيماً ((الأحزاب:59)
والفعل كان من الأفعال المساعدة في العربية، وهو يفيد في هذا السياق الاستمرار، ولكنه أُدخل في التركيب لمراعاة الفاصلة حيث يعمل النصب في الخبر الواقع فاصلة حين تكون الفواصل منصوبة
وفواصل سورة النساء أكثرها منصوب، وللنصب عوامل متعددة، منها النصب على أنه خبر كان أو مفعول به أو مفعول لأجله أو مصدر أو تمييز …إلخ، وتستأثر كان بالنصيب الأكبر في نصب الفاصلة في القرآن الكريم، وفي سورة النساء نصبت الفاصلة بكان في (56) موضعاً من مجموع فواصل السورة وهو (176) أي بنسبة 39% تقريباً من فواصل السورة، وسنجد ذلك كثيراً أيضاً في فواصل سور الكهف ومريم والأحزاب والفرقان والفتح مما ورد منصوباً منوناً.
¥