فإن للخازن في ذلك شأناً جليلاً ومسلكاً مفيداً وسأركز منه على ما يعلق بالعقائد مما له مساس بمقام النبوة أو خدش لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أبلى فيه الخازن بلاء حسناً وكان له في ذلك باع طويل فهو رحمه الله تعالى يتعقب الروايات الواردة في ذلك ويبطلها ويفند ويبين وجه الحق والتفسير الصحيح للآيات التي نسجت تلك الروايات حولها والأمثلة على ذلك كثيرة وسأكتفي ببعض النماذج فمن ذلك:
القصص المفترى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاسيما داود وسليمان اللذين لقيا من اليهود أذى كثيراً وبهتاناً عظيماً ولا غرابة فاليهود قوم بهت كما وصفهم الحبر المقدم فيهم الذي أنقذه الله بالإسلام الصحابي الجليل عبدالله بن سلام رضي الله عنه.
وقد ساق الخازن في تفسيره كثيراً من الروايات الطاعنة في نبي الله داود عليه السلام والقادحة في عصمته كقصة الشيطان الذي تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فطارت ثم وقعت بين رجليه وألهته عن صلاته، وقصة امرأة أوريا التي وقع بصره عليها فأعجبه جمالها فاحتال على زوجها حتى قتل رجاء أن تسلم له هذه المرأة التي فتن بها وشغف بحبها وغير ذلك من الروايات العجيبة الغريبة التي أوردها في تفسير قوله تعالى:" وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " الآيات إلى قوله تعالى:" وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ".
وبعد أن أورد الخازن تلك الروايات التي يمكن أن تكون من باب
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ****** ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
عقب ذلك بفصل: في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه فقال رحمه الله تعالى: اعلم أن من خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وأئتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه مالو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء؟!
ونقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء.!!
وعن القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه الله في قصة داود:" وظن داود أنما فتناه " وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود.
وينقل أيضاً عن الإمام الرازي والمحققين من المفسرين ما يؤيد هذا ويؤكد تنزيه نبي الله داود عليه السلام.
ولم يكتف الإمام الخازن رحمه الله تعالى بإبطال ذلك القصص وتلك الروايات فحسب بل يعمد إلى ذكر التفسير الصحيح للآية ويذكر في ذلك عدة أوجه ويختمها بقوله: وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل: هو قوله لأحد الخصمين:" لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " فحكم على خصمه بكونه ظالماً بمجرد الدعوى فلما كان الحكم مخالفاً للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة.
قال الخازن: فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله اعلم.
وهذا الوجه وإن بدت عليه مخايل الجودة وأنه موافق لسياق الآية " ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " حيث ذكرت استفتاء الخصمين واحتكامهما إلى داود عليه السلام وسرعة جوابه فقد رده بعض المحققين.
وبهذا تبطل قصة داود وأوريا وامرأته من أساسها ويحكم عليها بأنها فرية بدون مرية وهكذا نرى أن الإمام الخازن رحمه الله تعالى يتصدى لهذه القصة بالتزييف والإبطال بينما نجد بعض المفسرين يودعونها تفاسيرهم من غير نكير مع ما فيها من بشاعة ونكارة.
وقد ساق أيضاً الروايات الواردة بشأن سليمان عليه السلام ومنها قصو صخر المارد وتشبهه به وتسلطه على ملكه ونسائه ثم يكر على ذلك بالتفنيد وينقل عن القاضي عياض وغيره من المحققين أن ذلك كله غير صحيح وأن الشيطان لا سبيل له للتشبه بأنبياء الله أو التسلط على ملكهم لأن الله تعالى قد عصمهم منه
ثم يشرع في بيان التفسير الصحيح لقوله تعالى: " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب " الذي نسجت حوله قصة صخر المارد فيقول:
والذي ذهب إليه المحققون: أن سبب فتنته ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون وفي رواية: لأطوفن بمائة امرأة فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل ونسي.
قال العلماء: والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل: نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه.
وبينما نرى أن الإمام الخازن يسير في هذا الطريق المضيء وينكر ذلك القصص الباطل نرى غيره من أجلاء المفسرين يذكر ذلك ولا يبطله بل ربما أقره بعظهم يقول الإمام ابن عطية: اختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه فقال الجمهور: الجني المذكور أي صخر المارد سماه جسداً لأنه قد تمثل في جسد سليمان عليه السلام ولبس به وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى.
ويقول الإمام البغوي بعد ذكر القصة: وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني.!!
¥