كما وقع الخلاف في المراد بالإنسان هل هو آدم فقط؟ أم نوع الإنسان كجنس؟ أم قابيل قاتل أخيه هابيل؟ أم المنافق و الكافر؟.
وهو نفس الخلاف الذي وقع في تفسير قوله تعالى: " و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الأعراف 172.
أي أن الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم و خلقهم على فطرة التوحيد و الإسلام.و أشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة و تكوين لا قول وحي و تبليغ: ألست بربكم فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة.
و سبب هذا الإشهاد ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا: إنا كنا عن التوحيد غافلين أي لم ينبهنا إليه أحد. فلا عذر بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله و وجود العقل و تكوين الفطرة.
و خلْق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى وهي قوله تعالى: " فأفم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " – الروم 30 - . و في الصحيحين ما يؤيد ذلك فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ".
و قد اختلف العلماء في هذه الآية على رأيين:
* رأي السلف الذين قالوا: إن الله خلق آدم و أخرج من ظهره ذريته كالذر و أحياهم و جعل لهم عقلا و إدراكا و ألهمهم ذلك الحديث و تلك الإجابة و أخذ عليهم العهد بأنه ربهم فأقروا بذلك.
* رأي الخلف الذين قالوا: هذا من قبيل التمثيل و المجاز و الاستعارة فلا سؤال و لا جواب و إنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته و ربوبيته للكون كله. و شهدت بها عقولهم و بصائرهم التي ركبها فيهم و جعلها مميزة بين الضلال والهدى فكأنه قال للخلق: أقروا بأني ربكم و لا إله غيري. و كأنه أشهدهم على أنفسهم و قال لهم ألست بربكم فقالوا: بلى.
و ربما كان هناك رأي ثالث وهو أن القصة كانت في عالم الأرواح: لما أراد الله أن يشهدهم على أنفسهم أمر إسرافيل فنفخ في الصور فحصل للأرواح هول عظيم مثل ما يحصل للناس يوم القيامة عند نفخة البعث. ثم سألهم و أشهدهم على أنفسهم و عند ذلك افترقت الأرواح بحسب قوة أنوارها و ضعفها فمن الأرواح من أجاب محبة و هي أرواح المؤمنين و منها من أجاب كرها وهي أرواح الكافرين.
فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم و لهذا قال "أن تقولوا " أي لئلا تقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا " أي التوحيد "غافلين" أي لم ننبه إليه.
ثانيا:
يقول الله عز وجل: {و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون} –الذاريات 56 -
يتبين من الآية أن الخلق ليس إلا للعبادة فالمقصود من إيجاد الثقلين العبادة. فاللام في " ليعبدون" لام العلة أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. و التقدير لإرادتي أن يعبدون. و يدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان " ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون ".
و لكن ابن عاشور رحمه الله يقول: .. فالحصر المستفاد من قوله: " وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون " قصر على علة خلق الله الإنس و الجن على إرادته أن يعبدوه و الظاهر أنه قصر إضافي –أي إلا ليعبدوني وحدي أي لا يشركوا غيري في العبادة فهو رد للإشراك – و ليس هو قصرا حقيقيا فإن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نحيط بها. فقد ذكر حٍِكَما للخلق غير هذه: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم"- هود 118 - بل ذكر حكمة خلق بعض الإنس كقوله في خلق عيسى " و لنجعله آية للناس و رحمة منا " – مريم21 - . اهـ
ثالثا:
أما محاورك الملحد فلن يفيده الإنكار شيئا.فكلامه حجة عليه
اسأله: أليس هو حيوان ناطق؟ من الذي أنطقه؟ لقد زرع الله فينا خاصية الكلام و جعل تعلم الكلام من فطرتنا. فهل ينكر هذا؟
ضع أي طفل في بيئة تتكلم العربية سيصبح عربي اللغة و لو وضعته في بيئة تتكلم الإنكليزية لأصبح إنكليزي اللغة و هكذا .. فالله زرع في فطرتنا الإيمان به شئنا أم أبينا. فلو وضعنا صغيرا في بيئة تؤمن بالله لأصبح مؤمنا به و لو وضعناه في بيئة تؤمن باتباع الهوى لأصبح كذلك (" أرأيت من اتخذ إلهه هواه .. " الفرقان 43).
كذلك الرضيع من الذي غرس فيه خاصية الرضاعة؟ إنه الخالق الحكيم.فكما أودع فيك فطريا حب الرضاعة كي تعيش فقد أودع فيك فطريا آيات التوحيد كي تعبده. شعر الرضيع بذلك أم لم يشعر. و اعترفت بذلك أم أنكرت.
والله تعالى أعلم.
ـ[فهد الناصر]ــــــــ[25 Feb 2005, 02:20 م]ـ
جزاكم الله خيراً أخي الكريم (أبوزينب). جهد موفق ما شاء الله. وأؤيد هذا الاقتراح من الشيخ عبدالرحمن الشهري فكتاب التحرير والتنوير سفر نفيس، وكثير من المتخصصين يعرفه معرفة عامة مبهمة، دون معرفة مميزاته وجوانب تفرده. أرجو لك التوفيق في تتبع فرائد التحرير والتنوير. ولا تنقطع بارك الله فيك فنحن نتابع هذه الحلقات.
¥