وهذه صفات اتفق عليها القاصي والداني، والقريب والبعيد، ولذلك لوحقوا، وطوردوا، على مر الزمان؛ وحتى في هذا العصر لا ينعمون بالأمان حتى في دولتهم المزعومة.
ثانياً:
أما ما يقوله الأخ السائل من وجود " الغنى " و " العز " لليهود في زماننا هذا: فهو لا يخالف معنى الآية، وبيان ذلك من وجهين مُجملين:
1. ضرب الذلة والمسكنة على اليهود لازم لا يتخلف، وقد استثنى الله تعالى في " الذلة " – لا المسكنة - بقوله: (إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فما تراه هو من هذا، وأما بمجردهم: فهم أحقر من أن يكون لهم عز، ونصر، ولذلك لا يُعرف لهم انتصار في معركة دخلوها وحدهم، ولا يزالون في حاجة إلى الشرق والغرب لتثبيت دولتهم، فإما مددهم من الله ليذل بهم من تركوا دينه، أو حبل من الناس: عهد وميثاق مع المؤمنين، أو تحالف مع دول الكفر لنصرتهم، وتأييدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأمَّا كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب: فهذا لا يُعرف، بل المعروف خلافه , والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران / 12، فاليهود من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله، وحبل من الناس: لم يكونوا بمجردهم ينتصرون، لا على العرب، ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعْث المسيح عليه السلام فكذبوه، قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) آل عمران/ 55، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) الصف/ 14.
" مجموع الفتاوى " (1/ 302).
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
والمعنى: لا يسلمون من الذلّة، إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهدٍ من الله، أي: ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم: فلا نصر لهم، وهذا من دلائل النُّبوّة؛ فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيثربَ، وخيبر، والنضير، وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
" التحرير والتنوير " (4/ 56).
2. أن " المسكنة " ليست هي " الفقر "، بل لعلهم أغنى الناس، لكن المسكنة التي ضربها الله عليهم هي إظهار فقرهم، وبُخلهم بما في أيديهم، وقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) رواه البخاري (6081) ومسلم (1051)، وأنَّى لهؤلاء هذا الغنى؟!.
وقد ردَّ الشيخ العثيمين رحمه الله على ما ذكره الأخ السائل، وقد لخَّصنا كلامه في نقاط، نرجو أن تكون مفيدة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) البقرة/ من الآية 61 - :
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة):
1. خبرٌ مِن الله عن بني إسرائيل أنه ضُربت عليهم الذلة والمسْكنة، (الذلة) هذه في الشجاعة، أذلة، لا يقابِلون عدوّاً، قال الله تعالى: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) الحشر/14.
¥