وقوله: (إن الله معنا)؛ قيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أريد أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد؛ كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح: لا تفعل، إن الله معنا، يريد انه مطلع علينا، عالم بحالنا.
والسكينة قد بينا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بما بيناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأين موضع الفضيلة للرجل لولا العناد.
ولم نذكر هذا للطعن في أبي بكر، بل بينا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح)) (التبيان في تفسير القرآن للطوسي 5: 222 ـ 223).
فيالله العجب من هذا الكلام والتحريف الذي يُستعمل فيه كل تخريج غريب، يُغالب به ظاهر الآية ونصَّها، فمجرد الاحتمال حجة، وليس هذا فقط بل هو احتمال باطل متهافت، فهل مقام الغار مقام تهديد لأبي بكر، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم، ونشهدك على حبِّ أبي بكر وبغض من يبغضه.
ثالثًا: إذا جاء الأمر لعلي رضي الله عنه ـ وله من الفضائل الصحيحة ما لا يُنكر، وهو غنيٌّ عن تلك الفضائل المكذوبة ـ لم تجد مثل هذه التخريجات، بل إن الآيات التي يُستدلُّ بها في كثيرٍ من الأحيان لا تخصُّه وحده، لكنه يخصها به، ويراها فضيلة له، ومن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54)، ذكر الطوسي (ت: 406) فيمن نزلت هذه الآية أربعة أقوال:
الأول: نزلت في أبي بكر، ونسبه إلى الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج.
الثاني: نزلت في الأنصار، ونسبه إلى السدي.
الثالث: نزلت في أهل اليمن، وذكر انه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الطبري اختاره.
الرابع: أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليًّا، ونسبه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله وعمار وحذيفة وابن عباس.
ثم قال الطوسي (ت: 460) معلقًا على القول الرابع: (( ... فروي عن أمير المؤمنين أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم، وتلا هذه الآية، ومثل ذلك روي عن حذيفة وعمار وغيرهما.
والذي يقوِّي هذا التأويل أن الله تعالى: وصف من عناه بالآية بأوصاف؛ وجدنا أمير المؤمنين مستكملاً لها بالإجماع؛ لأنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين بما يوافق لفظ الآية في قوله يوم ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرَّعنها واحدًا بعد واحدٍ (1) (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارٌ غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)، فدفعها إلى أمير المؤمنين، فكان من ظفره ما وافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ قال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم، والعزة على الكافرين، والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين التي لا يُدانَى فيها ولا يُقارب.
ثمَّ قال: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فوصف ـ جلَّ اسمه ـ من عنا بهذا الجهاد، وبما يقتضي الغلبة فيه، وقد علمنا انَّ أصحاب رسول الله بين رجلين: رجلاً لا عناء له في الحرب ولا جهاد. والآخر له جهاد وعناء، ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين في الجهاد، فإنهم مع منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته ولا يقاربون رتبته؛ لأنه المعروف بتفريج الغمم، وكشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لم يحم قط عن قرن، ولا نكص عن هول، ولا ولَّى الدبر، وهذه حالة لم تسلم لأحد من قبله ولا بعده، فكان بالاختصاص بالآية
¥