وقد ورد (الحين) في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك؛ كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} (الإنسان:1). قيل في التفسير: أربعون عامًا. وحكى عكرمة أن رجلاً قال: (إن فعل كذا وكذا إلى حين، فغلامه حر. فأتى عمر بن عبد العزيز، فسأله، فسألني عنها، فقلت: إن من الحين حينًا لا يدرك؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة:36)، فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها. فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعًا لعكرمة، وغيره).
وقال الزجاج: (جَميع مَنْ شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن (الحين) اسم كالوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها طالت، أم قصرت). وهذا قول الأزهري. وقال النحاس: (وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن (الحين) - عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم- بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره).
والظاهر من السياق أن الكلمة الطيبة مثلها كشجرة طيبة، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت، من صيف أو شتاء، أو ليل أو نهار. كذلك الكلم الطيب، لا يزال يصعد إلى الله تعالى، ويرفعه العمل الصالح في السماء، آناء الليل وأطراف النهار، في كل وقت وكل حين. قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10).
و قوله سبحانه: {بِإِذْنِ رَبِّهَا}. أي: بتسييره وتكوينه. ويدل على أن كل شيء لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى. وفيه دقيقة عجيبة؛ وذلك لأن ما أذن الله في إيتائه لا يكون إلا على أحسن حال، وأكمل وجه. وخصَّ إيتاء الأكل بالشجرة الطيبة بإذن ربها على سبيل المدح والتشريف.
قال الرازي: (ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة، أم غيرها؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة، ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه؛ سواء كان لها وجود في الدنيا، أو لم يكن؛ لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل. واختلافهم في تفسير الحين أيضًا من هذا الباب، والله أعلم).
وعقَّب سبحانه على ذلك بقوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}؛ وذلك لأنها أمثال مصداقها واقع في الأرض، ولكن الناس كثيرًا ما ينسونه في زحمة الحياة؛ ففي ضربها لهم زيادة إفهام، وتذكير، وتصوير للمعاني. وذلك؛ لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم، فإذا ذكر ما يماثلها، أو يشابهها من المحسوسات، ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة، وانطبق المعقول على المحسوس، وحصل به الفهم التام، والوصول إلى المطلوب.
وفي مقابل تلك الصفات، التي وصف الله تعالى بها الشجرة الطيبة، التي شبه بها الكلمة الطيبة، وصف الشجرة الخبيثة، التي شبه بها الكلمة الخبيثة في صفتها بثلاث صفات:
الصفة الأولى: كونها {خبيثة}. وذلك يحتمل أيضًا أن يكون بحسب الرائحة، وأن يكون بحسب الطعم، وأن يكون بحسب الصورة والمنظر، وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة. والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات، وإن لم تكن موجودة، إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة، كان التشبيه بها نافعًا في المطلوب.
وأصل (الخبث) في كلام العرب: المكروه. فإن كان في الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، ومنه قيل لما يرمى من منفي الحديد: الخبث.
ومنه الحديث: (إن الحمى تنفي الذنوب؛ كما ينفي الكير الخبث). وخبث الحديد والفضة ما نفاه الكير، إذا أذيبا؛ وهو ما لا خير فيه.
والصفة الثانية: كونها {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ}. أي: استؤصلت. وهذه الصفة في مقابلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في صفة الشجرة الطيبة. وحقيقة (الاجتثاث) أخذ الجثة كلها- وهي شخص الشيء- من فوق الأرض، لكون عروقها قريبة من الفوق؛ فكأنها فوق. وهذا يعني: أنه ليس لها أصل، ولا فرع، وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة.
والصفة الثالثة: كونها {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}. وهذه كالمتممة للصفة الثانية؛ فنفى أن يكون لها
¥