تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الأولية المذكورة.)) (17)، ثم يقول في موطن آخر وهو يدلل على كلام أبي شامة المتقدم: ((ويدل على ما قرره أنه أنزل أولاً بلسان قريش ثم سهل على الأمة أن يقرؤوه بغير لسان قريش، وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما في حديث أبي بن كعب أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غِفار فقال: إن الله يأمرك أن تقريء أمتك القرآن على حرف، فقال: أسال الله معافاته مغفرته، فإن أمتي لا تطيق …)) (18).

وأضاة بني غِفار هي موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غِفار، فالتنوع في القراءات لم يعرف في العهد المكي، وإنما كان التنوع بعد الهجرة النبوية المباركة، لأنَّ الحاجة لم تكن قائمة لأن تتعدد القراءات في العهد المكي والقرآن أنزل بلسانهم وعلى ما جرت عليه عاداتهم في النطق الذي هو افصح ما انتهت إليه لغات العرب جميعاً، ومع أن تعدد وجوه القراءات جاء لييسر القراءة للناس، وحتى يستطيع كل عربي أن يقرأ القرآن بأحرفه وكلماته التي اعتاد عليها من لحن قومه، فإنها تضمنت أيضاً ضرباً من ضروب الإعجاز، وهو أن التحدي في معارضة هذا القرآن كان عامة لكل العرب، فلو اقتصر إنزال القرآن على لغة واحدة هي أفصح لغات العرب جميعاً وأعلاها، ما كان يستقيم التحدي للعربي من أهل غير قريش التي لغته أدنى من اللغة التي نزل بها القرآن أن يتحدى بها، فكان من تمام إعجازه أن ينزل القرآن على أكثر من حرف، ليعجز العرب كافة عن معارضته والإتيان بمثله، بل بآية من مثله، وفي هذا يقول الرافعي ـ رحمه الله ـ: ((وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به، ومع اليأس من معارضته على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم الأحوال في مناطق العرب، فقد تم له التمام كله، وصار إعجازه إعجازاً للفطرة اللغوية في نفسها حيث كانت وكيف ظهرت ومهما يكن من أمرها.)) (19)

ومن هذا يتحصل أن عمل عثمان بن عفان يتلخص في حمل الناس على القراءة بوجه واحد على ضوء ما نزل به القرآن أول نزول ووافقه عليه الصحابة، وترك للصحابة حرية القراءة فيما يخالف خط المصحف، وذلك إذا تأكد ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون التعليم العام للمسلمين إلاَّ من المصحف الذي أجمع على ما فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا لم يلغِ عثمان بن عفان سائر الحروف إنما ترك الباب مفتوحاً لكل من كان يؤكد من الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بقراءة معينة أن يقرأ بها بحرية تامة، ولكن بشكل خاص ونطاق ضيق، ولذلك لم تحظ القراءات المخالفة لمصحف عثمان إلاّ بنقل الآحاد، لأنه ألزم العامة بالقراءة بالمصحف الذي اختار حروفه ووافقه عليه إجماع الصحابة، وبهذا يقول مكي: ((وسقط العمل بالقراءات التي تخالف خطَّ المصحف، فكأنها منسوخة بالإجماع على خطِّ المصحف.

والنسخ للقرآن بالإجماع فيه اختلاف، فلذلك تمادى بعض الناس على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله، وليس ذلك بجيد ولا بصواب، لأن فيه مخالفة الجماعة، وفيه أخذ القرآن بأخبار الآحاد، وذلك غير جائز عند أحدٍ من الناس.)) (20)

وبهذا العمل المنظم والدقيق، ومن خلال هذا الجهد العظيم اختزلت القراءات التي اتسعت وتنوعت في زمن عثمان وسقطت القراءة بكثير من القراءات لأنها خالفت خط المصحف الذي صار إليه الإجماع من قبل الصحابة، ومضى المسلمون يتلقون القرآن بقراءاته من علماء التابعين وتابعي التابعين جيلاً بعد جيل متحرين الدقة في الرواية، معتمدين في ذلك على المشافهة والسماع لا على الدراية والاجتهاد والاكتفاء بالمصاحف، يقول ابن مجاهد (ت 324 هـ): ((والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوَّليهم تلقِّياً، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه وتمسَّكوا بمذهبه على مارُوِي عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعروة بن الزبير، ومحمد بن المنكدر، وعمر بن عبد العزيز، وعامر الشعبي.)) (21)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير