والاختلاف والتنوع في القراءات القرآنية يشبه إلى حدٍ كبير ظاهرة تكرار القصص القرآني، فكل آية أو واقعة تبين معنى جديداً لم تبينه الآية أو الواقعة السابقة، ففي قصة سيدنا إبراهيم مع ضيوفه ما يجلي هذا المقصد، فقد ذكر الله عز وجل في سورة هود رسله وأنهم قدموا على إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود: 69]، وقال في سورة الذاريات: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات: 24 - 26].
فنلحظ أن الله تعالى يخبر في سورة هود أنه أرسل رسله إلى إبراهيم، بينما نرى في سورة الذاريات أنه يبين جنس هؤلاء الرسل وهم الملائكة وأنهم منكرون لدى إبراهيم عليه السلام، كما نرى في المشهد الأول أن إبراهيم عليه السلام يقدم لهم عجلاً يصفه الله بالحنيذ، والحنيذ هو العجل المشوي على الرَّصف بحر الحجارة من غير أن تمسه النار مما يجعل شحمه يتقاطر حتى تنضجها (45)، بينما نرى المشهد الثاني الذي صورته سورة الذاريات يبين أن العجل كان سميناً فهو ليس بالهزيل، وهذا قمة إكرام الضيف، فكل آية أعطت معنى جديداً لم تبينه الآية الأخرى.
وكذلك الأمر في قصة سيدنا موسى، فقد ذُكِرَت في مواطن كثيرة من القرآن، ومن هذه المواطن قوله تعالى: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ) [الأعراف: 107]، وفي موطن آخر قال:
(وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ) [النمل: 10]، فالجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها، فهل تعارضت هاتان الآيتان؟
لقد ذكر العلماء تفسيراً لهذا مما قد يظنه بعض المشككين أنه اختلاف وتعارض في آيات القرآن، يقول الزركشي: ((وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.)) (46)
فآية الأعراف بينت شكلها وهيئتها وخلقتها، وآية النمل بينت حال تحركها واهتزازها، فكل آية أعطت معنى جديداً لم تبينه الآية الأخرى،وعلى هذا كثير من الآيات والقصص القرآني،لا اختلاف ولا تناقض بين الآيات، إنما لكل آية مقصد وهدف وغاية يقتضيه السياق وجو السورة العام.
والاختلاف في القراءات القرآنية لا يختلف عن هذا المقصد، إذ كل قراءة توضح وتبين معنى جديداً لم تبينه القراءة السابقة، وبذلك تتسع المعاني وتتعدد بتعدد القراءات، إذ كل قراءة بمقام آية، وفي ذلك يقول ابن عاشور (ت 1393هـ): ((على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مراداً لله تعالى، ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزءاً عن آيتين فاكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع …)) (47)، وبهذا يكون من مقاصد الاختلاف في القراءات القرآنية تكثير المعاني واتساعها، ولكن من غير تناقض أو تباين في المعاني، وسوف ندلل على هذا الأمر بما سنعرضه من بعض القراءات، لأن هذا المقام لا يتسع لذكر القراءات جميعها، فالأمر يتطلب دراسة أشمل وأكبر من هذا البحث، ولكن هذه القراءات التي سنختارها ونبين المعاني التي تضمنتها سوف ترسم ملامح واضحة للموضوع يكون الدارس معها على ركيزة ثابتة يمكن أن ينطلق من خلالها ويوجه جميع الاختلاف في القراءات القرآنية من غير تناقض أو تضاد.
1 - قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:10].
فقرأ عاصم وحمزة والكسائي (يَكْذِبُونَ) بفتح الياء وتسكين الكاف وتخفيف الذال، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (يُكَذِّبونَ) بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال. (48)
فالقراءة بالتخفيف معناها أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب كَذِبَهم في إظهار الإسلام والإيمان وهم في باطنهم كافرون، فهم كاذبون في قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر).
¥