فمعنى قراءة العامة أن الملائكة لا يقصرون فيما يؤمرون به من توفي من تحضره المنية ولا يغفلون ولا يتوانون، أما قراءة الأعرج (لا يُفْرِطُون) فهو من الإفراط أي الزيادة، فهم لا يزيدون ولا يتوفون إلاَّ من أمروا بتوفيه لا يتجاوزن الحد في ذلك، قال ابن جني (ت 392 هـ): ((يقال أفرط في الأمر إذا زاد فيه، وفرَّط فيه إذا قصَّر، فكما أن قراءة العامة (لا يُفَرِّطُون) لا يقصرون فيما يؤمرون به من توفِّي من تحضر منيته، فكذلك أيضاً لا يزيدون، ولا يَتَوَفَّون إلاَّ من أُمِرُوا بتَوَفِّيه، ونظيره قوله جل وعز: ? وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ? [الرعد: 8].)) (65)
فدل بالقراءتين على أن الملائكة يفعلون ما يؤمرون به دون زيادة أو نقصان فكل قراءة وضحت معنى هو من مراد الله عز وجل دون تضاد أو تناقض، وهو من باب التوسع في المعاني من غير تباين في معاني القراءات. (66)، وفي هذا يقول الزمخشري (ت538 هـ): ((و (يفرطون) بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدِّ، والإفراط مجاوزة الحدِّ، أي لا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه.)) (67)
5 - قوله تعالى: ? وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ? [التكوير: 22 - 25].
قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة (بِضنين) بالضاد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس (بظنين) بالظاء. (68)
فالقراءة بالضاد (بضنين) فمن الضنة وهي البخل، أي معناها ما هو على الغيب ببخيل، أما القراءة بالظاء (بظنين) فمن الظنة وهي الاتهام، أي ما هو على الغيب بمتهم.
يقول الفراء: ((حدثني قيس بن الربيع عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: أنتم تقرءون (بضنين) ببخيل، ونحن تقرأ (بظنين) بمتهم، وقرأ عاصم وأهل الحجاز وزيد بن ثابت (بضنين) وهو حسن، يقول: يأتيه غيب السماء وهو منفوس فيه فلا يضن به عنكم، فلو كان مكان على، عن صلح أو الباء كما تقول: ما هو بضنين بالغيب، والذين قالوا: بظنين احتجوا بأن على تقوي قولهم، كما تقول: ما أنت على فلان بمتهم.)) (69)، ونحو هذا ذهب الزجاج بقوله: ((فمن قرأ بظنين فمعناه ما هو على الغيب بمتهم وهو الثقة فيما أداه عن الله جل وعز، يقال ظننت زيداً في معنى اتهمت زيداً، ومن قرأ (بضنين) فمعناه ما هو على الغيب ببخيل، أي هو ? يؤدي عن الله ويُعَلِّمُ كتاب الله.)) (70)
ويقول ابن خالويه (ت 370 هـ): ((قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (بظنين) بالظاء، أي: بمتهم، يقال: بئرٌ ظنينٌ، إذا كان لا يُوثَقُ بها.
وقرأ الباقون (بضنين) بالضاد، أي: ببخيل، أي ليس بخيل بالوحي بما أنزل الله من القرآن فلا يكتمه أحداً، تقول العرب: ضننت بالشيء أضن به: إذا بخلت به، ويُنشد:
مَهْلاً أعَاذِلُ قَدْ جَرَّبْتِ مِنْ خُلُقِي * إنِّي أجُوْدُ لأقوامٍ وإنْ ضَنَنُوا.)) (71)
ولم يشذ عن هذه المعاني جمهور المفسرين وأصحاب كتب علل القراءات (72)،كما أورد أصحاب كتب النظائر بين الظاء والضاد ما يؤكد ما ذهب إليه أصحاب كتب التفسير، ومعاني القرآن، وعلل القراءات، لكن المفيد في الكتب التي اختصت بالحديث عن الظاء والضاد هو انفرادها برواية النظائر بشيء من التوسع والشمول والاعتماد على ما قرره علماء اللغة في معجماتهم، كما أنها أصبحت مضان الدارسين في هذا الباب، لأنها عالجت ما أصاب بعض المتأخرين من الخلط بين الحرفين في النطق مع أن معناهما مختلف في بناء الكلمة، فوضعت هذه الكتب الضوابط للتفريق بين الحرفين مع ذكر المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ.
يقول السرقوسي (ت نهاية القرن السادس): ((ويكون الظَّنُّ بمعنى الشكَ والتهمة، قال الله تعالى: ?مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ? [النساء:157]، ? إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ? [الجاثية: 32].
واختلف في سورة التكوير في قوله: ? وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ?، فقُرىء بالظاء على معنى التهمة، وقُرىء بالضاد على معنى البخيل (وما هو على الغيب بضنين) أي: ببخيل.)) (73)
¥