ويقول ابن مالك (ت 672 هـ): ((فأما (الضنُّ) بالضاد فمصدرُ ضنَّ بالشيء ضَنّاً وضِنّاً وضَنَانَةً إذا بَخِلَ به وشَحَّ، واضنينُ: البخيلُ، وقُرِىء: (وما هو على الغيب بضنين) …
وأما (الظنُّ) بالظاء: التُهمةُ، وقُرىء (وما هو على الغيب بظنين) أي بمتهم، وكلاهما بالظاء والضاد متوجهان في حقِّ النبي ?، لأنه ليس ببخيل ولا بمتهم.)) (74)
وبهذا يتحصل أن القراءتين وإن اختلف لفظهما فلم يتناقض أو يتضاد معناهما، بل تصدق بعضهما بعضاً، وكل قراءة تزيد معنى جديداً تكمل به القراءة الأخرى، فالمراد بهاتين القراءتين جميعاً هو النبي ?، وذلك أنه كان غير متهم فيما أخبر به عن الله تعالى وغير بخيل بتعليم ما علمه الله وأنزله إليه فقد انتفى عنه الأمران جميعاً، فأخبر الله تعالى عنه بهما في القراءتين. (75)
من خلال ما تقدم يتبين بشكل جلي أن الاختلاف في القراءات القرآنية هو اختلاف تنوع وتغاير، وليس اختلاف تناقض أو تضاد، إذ ليس في شيء من القراءات تنافٍ ولا تضاد ولا تناقض ولا تباين، وإن من مقاصد هذا الاختلاف هو التكثير من المعاني في الآية الواحدة، فكانت كل قراءة تلقي الضوء على جانب معين لم تبينه القراءة الأخرى، وكأن الموضوع مجموعة صور لمسجد أو بيت كل صورة تبين أو تزيد شياً جديداً لم تبينه الصورة الأخرى، مع أن جميع الصور هي لمكانٍ واحد.
[ line]
الخاتمة والنتائج
لن أطوي صفحات هذا البحث حتى أجمل بعض الحقائق التي خرجتُ بها من خلال دراسة هذا الموضوع والتي تتلخص في الأمور الآتية: -
(1) إنَّ موضوع القراءات القرآنية من الموضوعات المهمة في الدرس اللغوي العربي، لأنَّ دراسة هذا الموضوع يكشف الكثير من القضايا اللغوية المهمة (الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية)، ويلقي الضوء على الكثير من الخصائص اللهجية التي اتسمت بها القبائل العربية، وبهذا تعد مادة القراءات القرآنية وما يتعلق بها من قضايا رافداً مهماً من روافد الدرس اللغوي العربي لا يمكن تجاهله أو التقصير فيه،ولاسيما دارس العربية.
(2) تبين من خلال البحث أن علماء المسلمين أجمعوا على أن الاختلاف في القراءات إنما هو اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض، ودللنا على ذلك بجملة من أقوال علماء المسلمين والتي تثبت ذلك، وتوضح بشكل قاطع جهل بعض المستشرقين في هذا الموضوع وهم يصفون الاختلاف في القراءات القرآنية بالاضطراب.
(3) اتضح من خلال عرض بعض الاختلاف في القراءات القرآنية اثر القراءات في تعدد المعاني واتساعها، وإن الإكثار من المعاني في الآية الواحدة هو مقصد من مقاصد الاختلاف في القراءات القرآنية، وهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق وكل قراءة مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته من المعاني علماً وعملاً.
وهذا الموضوع لم يغفل عنه علماء المسلمين، فكتب التفسير وتوجيه القراءات احتوت على جوانب كثيرة من هذا الموضوع إلاَّ أنها لم تدرس هذا الموضوع بالشكل الذي عرضناه دراسة استقصائية، وإنما كانت توضح حجة أو علة كل قراءة وتورد بعض الأقوال مبثوثة هنا أو هناك، كأنها ترجح قراءة على أخرى أو تبين العلة من القراءة بهذه اللفظة متجاهلة ـ في الأعم الأغلب ـ الفوائد واللطائف التي تتحقق من خلال الاختلاف في القراءات القرآنية، لذا أرى من المفيد جمع كل ما يتعلق بهذا الموضوع وإفراده بتصنيف يبين المعاني والفوائد واللطائف التي تضمنتها القراءات ويبرز جانب الإعجاز في النص القرآني بكونه غير قابل للتناقض والتباين والاضطراب على الرغم من تعدد القراءات وتنوعها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ line]
الهوامش
(1) ينظر: معرفة القراء الكبار 1/ 54.
(2) صحيح البخاري 1/ 6 و6/ 2736. والحديث في: مسند الإمام أحمد 1/ 343،وصحيح مسلم 1/ 330،وسنن الترمذي 5/ 430، وسنن النسائي 1/ 324و6/ 503.
(3) فتح الباري 1/ 30.
(4) المرشد الوجيز 33.
(5) ينظر: جمال القراء 2/ 424.
(6) النشر 1/ 6.
(7) ينظر:مسند الإمام أحمد 1/ 10و13، وصحيح البخاري 4/ 1720و1907و6/ 2629، وسنن الترمذي 5/ 283،والنسائي 5/ 7، وكتاب المصاحف 1/ 170، والإبانة 23 - 25، و محاضرات في علوم القرآن 55 - 56.
(8) ينظر: الإبانة 15.
¥