تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقراءة الجمهور فيها معنى المفاعلة، فالمواعدة تكون بين اثنين، فهناك وعد من الله لموسى بإعطائه التوراة، ووعد من موسى بالتنفيذ والالتزام والحضور. أما قراءة أبي عمرو فإنها تدل على أن الوعد كان من الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام، فهو من جهة واحدة، فإذا كانت قراءة الجمهور دالة على ما كان يطمح إليه كليم الله تبارك وتعالى من فرحة اللقاء، ونور المؤانسة التي ذاق حلاوتها من قبل وهو عائد من مدين حينما خوطب: (إني أنا ربك)، وحين سئل: (وما تلك بيمينك يا موسى) فأطال القول: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) (طه: 18). أقول إذا كانت قراءة الجمهور دالة على ذلك كله فإن قراءة أبي عمرو تدل على أن الوعد كان فيه إكرام وتكليف لموسى عليه السلام.

- ولنتدبر ما قصّه علينا القرآن حديثاً عن نوح عليه السلام: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعُمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (هود: 28)، وقوله سبحانه: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين. فَعَمِيَت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون) (القصص: 65 - 66). فلقد تعددت القراءات في الآية الأولى، فقرأ حفص وحمزة والكسائي (فعمّيت) بالتشديد على بناء الفعل للمفعول، وقرأ الباقون بالتخفيف وبناء الفعل للفاعل، ولكنهم أجمعوا على قراءة آية القصص بالتخفيف، ولو كانت القراءة اجتهاداً لاختلفوا في القراءتين أو اتفقوا عليهما.

ونحن إذا أنعمنا النظر في الآيتين الكريمتين أدركنا حكمة الاختلاف والاتفاق، فآية سورة هود التي اختلفت فيها القراءات يصح توجيهها على كلتا القراءتين، فقراءة التشديد تبين أن الرحمة قد عمّيت، وقد يكون الذي عمّاها عليهم هو الله تبارك وتعالى لأن قلوبهم غلف، فأضلهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم، وقد يكون غيره سبحانه، وهو خلاف مشهور بين المفسرين. قال تعالى: (زيّن للناس حب الشهوات) (آل عمران: 14)، وقال: (زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا) (البقرة: 212)، فقد قيل إن المزيّن هو الله سبحانه، وقيل إن المزيّن هو الشيطان، ولكلٍّ وجهة فيما ذهب إليه. وهذا يصدق على الآية التي نتحدث عنها.

وقراءة التخفيف تدل على أن الرحمة هي التي عميت عليهم وهو أسلوب في العربية شائع مشتهر، يقال: أدخلت الأصبع في الخاتم، وأدخلت الخاتم في الإصبع. فمعنى عميت عليهم الرحمة أنهم هم عموا عنها، أو تكون عميت بمعنى خفيت، ويكون ذلك من باب المجاز. قال الشيخ زاده رحمه الله: "وقرأ الباقون بفتح العين وتخفيف الميم. والمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم كما لو عمى دليل القوم عليهم في المفازة فإن الحجة كما توصف بالإبصار إذا كانت معلومة لأنها هادية كالبصر. قال تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة). كذلك توصف بالعمى إذا كانت مجهولة خفية لكونها غير هادية. قال الله تعالى: (فعميت عليهم الأنباء) " ([1]).

أما آية القصص وقد اتفقوا على قراءتها بالتخفيف، فإن التشديد فيها غير ممكن من جهة المعنى، فإنها تتحدث عن يوم القيامة، وهو اليوم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت، وهو اليوم الذي تتحقق فيه العدالة (لا ظلم اليوم). وعلى هذا فلا يعقل ولا يصح أن يعمى على هؤلاء شيء، فإن التعمية لا تتفق ولا تنسجم مع العدل المطلق الذي يتحقق في ذلك اليوم كيف وهم لا يظلمون فتيلاً، ويعلم الله أن تدبر هاتين الآيتين فيه رد حاسم وتقرير جازم على كل أولئك الذين أرادوا أن يثيروا زوبعة حول هذه القراءات، وهو مع ذلك برهان ساطع على مظهر الإعجاز لتلك القراءات المتواترة.

- قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثَمّ أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين ... ) ([2]) (التكوير: 19 - 24). فقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء (بظنين) ومعناه (بمتهم)، وقرأ الباقون بالضاد ومعناه ببخيل. فقراءة الظاء منسجمة مع الوصف السابق وهو قوله سبحانه (أمين)، أما قراءة الضاد فمعناها أنه ليس بخيلاً بما أمر بتبليغه فلا يكتم ما عنده تلقاء أجر يتلقاه، كما يفعل الكهّان. وعلى هذا فهذه القراءة منسجمة مع ما بعدها من قوله: (وما صاحبكم بمجنون)؛ فإن نفي الكهانة والجنون جاء في مثل قوله سبحانه: (فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون). وهكذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير