تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تتفق القراءة الأولى مع ما قبلها، وتنسجم الثانية مع ما بعدها.

وهناك أمر آخر يظهر لي من اختلاف القراءتين وهو أن هذه الآيات الكريمة اختلف فيها المفسرون، فبعضهم ذهب إلى أن المقصود جبريل عليه السلام، وآخرون قالوا إن المقصود هو النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك وكان كلٌّ من المعنيين صحيحاً، فإن الذي أراه أن قراءة الضاد ترجح أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي ليس بخيلاً بوحي الله كما هو شأن الكهان الذين يبخلون بتخرصات الشياطين، وقراءة الظاء ترجح أنه جبريل عليه السلام الذي اتهمه اليهود، كما حكى لنا القرآن المدني فيما بعد: (قل من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله). هذا ما يبدو لي في توجيه هاتين القراءتين من حيث النظم، ولله درّ التنزيل!

- قوله تعالى: (ليس البر أن تولّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب) (البقرة: 177): قرأ حمزة وحفص بنصب البر، وقرأ الباقون برفعه. ونستطيع أن نفهم القراءتين من الجهة البلاغية إذا نظرنا في سبب النزول، فقد قال قتادة والربيع ومقاتل وعوف الأعرابي: إنها نزلت في اليهود حينما اعترضوا على المسلمين يوم أن حُوّلت القبلة. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك وجماعة: إنها نزلت في المؤمنين؛ فقد سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ عن البر فنزلت ([3]).

ولا ريب أن السبب الأول يتفق اتفاقاً تامّاً ويتسق اتساقاً كاملاً مع قراءة النصب؛ لأن نظم الآية على هذا يكون هكذا: ليست توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر، فـ (أن) والفعل موّل بمصدر هو اسم ليس. أما السبب الآخر فهو منسجم مع القراءة الثانية وهو أن يكون البر مبتدأ، والمعنى: ليس البر توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب، وهذا يتفق مع السؤال عن البر.

ولكي نقرب هذا المعنى يجمل أن نتصور الفرق بين قولنا: أخو زيد أحمد، وقولنا: أحمد أخو زيد. فأخو زيد في الجملة الأولى هو المبتدأ، وأحمد هو المبتدأ في الجملة الثانية. وبين الجملتين فرق شاسع؛ لأن المبتدأ لا بد أن يكون معروفاً للمخاطَب، ففي الجملة الأولى يَعْرِف المخاطب أخا زيد، ولكنه لا يعرف أنه أحمد، وفي الجملة الثانية يعرف المخاطب أحمد، ولكنه لا يعرف أنه أخو زيد. فتولية المشرق والمغرب كانت هي الأساس عند أولئك الذين أثاروا ضجة على المسلمين يوم أن تحولت القبلة، فكانت هذه التولية عندهم هي الجوهر والمرتكز، فناسب أن تكون مبتدأً، فجعلت اسم ليس. أما في السبب الثاني فالبر هو الركيزة وهو المسؤول عنه فناسب أن يكون هو المبتدأ.

هكذا أعطت كلٌّ من القراءتين معنى بيانيّاً منسجماً مع ما قيل في الآية من أسباب النزول. أما ما أثاره النحويون من أولوية لأحد الوجهين من حيث الإعراب فغير مسلّم لهم، وليس من غرضنا الخوض فيه كذلك.

- يقول سبحانه: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) (النساء: 1): قرأ حمزة بجر الأرحام، والباقون بنصبها. ولقد أثار بعض النحويين والمفسرين إثارات كثيرة حول قراءة حمزة، وردّوها بحجة مخالفتها القواعد العربية، وبأن العرب لا تنسق اسماً ظاهراً على ضمير -كما يقول الطبري ([4]) - أي لا تعطف. وذهب بعضهم يفتّش وينقّب عن أبيات من شعر ليصحح بها قراءة حمزة، ولم يحسنوا صنعاً فلا يجوز أن نردّ قراءة متواترة من أجل قاعدة قعّدها بعض النحويين.

ولقد ردّ كثير من العلماء والأئمة والمفسرين واللغويين على هذه الإثارات مبينين أن حمزة بن حبيب لم يقرأها لحناً وإنما نقلها مشافهة نقلاً ثَبُت تواتره. ومن هؤلاء: الفخر الرازي والآلوسي وصاحب المنار، ونثبت هنا كلمة الآلوسي، يقول: "وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعّف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها، فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.

وأول من شنّع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة -منهم ابن عطية-، وزعم أنه يردّها وجهان: أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها، وهذا مما يغضّ من الفصاحة، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يردّ ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير