تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، والإمام بن أعين، ومحمد بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق -وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث- من الطبقة الثالثة.

وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه: غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه، منهم إمام الكوفة -قراءةً وعربيةً- أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة، ومجاهد وغيرهم -كما نقله ابن يعيش- فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة، وربما يخشى من الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور وهو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم. وقد أطال أبو حيان في "البحر" الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز، وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث أن ذكر الأرحام -حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى- ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة -وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم- فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها. وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلّم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فممّا لا بأس به، ففي الخبر: (أفلح وأبيه إن صدق)، وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص الآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف. وليس هو كقول القائل: والرحم لأفعلنّ كذا، ولقد فعلت كذا. فلا يكون متعلق النهي في شيء" ([5]). وأما صاحب المنار فلقد أطال النفس، وصال وجال ([6])، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن السؤال بالرحم ليس قسماً واستشهد على ذلك بشواهد كثيرة.

قراءة حمزة -إذن- مستقيمة من حيث اللغة ومن حيث المعنى، من الوجهة النحوية والوجهة البلاغية، فقراءة النصب تحث على صلة الأرحام وتحذّر من قطعها؛ إذ أكثر اللغويين على أن التقدير: واتقوا الله، واتقوا الأرحام. وليس معنى اتقائها إلا صلتها وعدم قطعها والإحسان إليها. وأما قراءة الجر ففيها رفعٌ من شأن الرحم وتذكير لهم بصنيعهم إذ كانوا في عظائم أمورهم يتساءلون بالأرحام. "وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه. وليس هذا من باب الأقسام، فإن الأقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي" ([7]).

- ونختم بهذه الآية الكريمة: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون): قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالإضافة، وقرأ الباقون بالتنوين ونصب (نوره). وربما يظن لأول وهلة أن القراءتين شيء واحد، إلا أن من يدرك أسرار العربية في إحكامها وأحكامها ودقتها تتشوّف نفسه إلى ما تعطيه هذه الحركات من فروق بين المعاني ناتجة عن الفروق بين الألفاظ.

إن من روعة العربية أنها تفرق بين المعنيين بالحركة تارة فيقولون: ضُحْكَة وضُحَكَة، فبإسكان الحاء هو الذي يُضحَك منه, وبفتحها هو الذي يَضحك من غيره. وقد يكون التفريق بحرف من حروف المعاني كتفريقهم بين (اللام) و (إلى)، فشتّان بين قولنا: أحمد أحبّ لأبيه. و: أحمد أحبّ إلى أبيه. قال تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا) (يوسف: 8).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير