فالجن ـ على هذا ـ ليسوا ممن تحداهم القرآن، ودخولهم في الآية دخول افترض بناء على هذا الرأي.
وفي جانب آخر قال البعض [بل وقع للجن والملائكة أيضاً فهم منويّون في الآية لأنهم لا يقدرون أيضاً على الإيتان بمثل هذا القرآن، واقتُصِر على الإنس والجن لأنه كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.] [32]
ودعنا نقتصر على الإنس الآن، حيث من العجيب أن يدخل البعض الملائكة مع الإنس والجن، ثم نرى من يقول إن القرآن تحدى العرب دون العجم، أو تحدي العرب ثم كان تحدي العجم تالياً لتحدي العرب
والسؤال لم؟
- إن العلة في ذلك: أن الإعجاز عندهم قائم في اللغة أو البلاغة أو النظم يقول الجصاص:
-[معلوم أن العجم لا يتحدون من طريق النظم، فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام ..
ويجوز أن يكون التحدي واقعاً للعجم بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها.] [33]
والذي يظهر أن تحدي القرآن للعجم لا يتصور أن يكون من جهة الفصاحة والبلاغة فهو لا يعرف لغة العرب، وإن تعلم فكلمات يقيم بها أوده.
ولا يكفي ـ كما أري ـ أن يكون التحدي له كامناً في علمه بعجز العرب عنه كما يقول الباقلاني أنه [إذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم وجرى مجراهم في توجيه الحجة عليه.] [34] لأن ذلك يعني أن معجزة القرآن وتحديه كانت للعرب وحدهم، بل للفصحاء منهم، وأن العجم خارجون عن هذه الدائرة، والمعلوم بداهة أن العجمي مهما بلغ في تعلم اللغة فلن يكون مثل العرب الأقحاح الذين علكوا اللغة وشربوا من عيونها، وتمرسوا في دروبها، وعايشوها وخادنوها، فأحبتهم وأحبوها ... وما دام الأمر كذلك فأين الأعجمي منه؟!
أقول: لا يكفي أن يثبت عجز الأعجمي بعجز العرب، فليس العرب حجة عليهم إلا إذا كان الإعجاز بلاغياً، وأنت تلاحظ أن حصر الإعجاز في هذا الخندق تجعلنا نفترض أموراً ونقرها وندافع عنها ونجعلها من المسلمات وحي بلا شك تحتاج إلى النظر.
يقول الباقلاني مثلاً: [لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك، فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم تحدوا إلى أن يأتوا بمثله، وقرِّعوا على ترك الإتيان بمثله ولم يأتوا به تبينوا أنهم عاجزون عنه.
وإذا عجز أهل ذلك اللسان فهم عنه أعجز ..
وكذلك نقول: ـ والكلام له ـ
إن من كان من أهل اللسان العربي إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً من غيره فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الناس الذي بدأنا بذكره وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء.] [35]
هل رأيت هذا؟!
هل رأيت إلى أي مدى حصرنا الإعجاز والتحدي في طائفة قليلة؟!
والسبب: [أن البلاغة إذا لم تكن هي مجال المعاجزة لكن اختيار العرب للمعاجزة لا مقتضى له.] [36]
وليت شعري، إذا كان هذا القياس صحيحاً فعلينا أن نقول للأعاجم جميعاً، بل ولأغلب العرب أيضاً: إن القرآن لا يتحدى أحداً الآن، لأنكم مهما بذلتم من جهد ومهما توصلتم من فهم للغة فلن تستطيعوا التحدي فلقد عجز العرب الأوائل، ومن منكم مثلهم؟!.
أليس عجيباً أن يقول القرآن الكريم
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ) (الإسراء: من الآية88)
ثم نقول فمن:إذا عجز أهل اللسان الأوائل فغيرهم أعجز. [37]
ونغلق الباب لأن القوم الذين تحداهم القرآن قد ذهبوا!!!!
إن القرآن الكريم حين قال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38).
لم يكن يقصد العرب وحدهم، وإلا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرسائل إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وفي كل رسالة كلام الله يتلى عليهم.
إن الذي دفعنا إلى هذا السبيل، وألجأنا إلى هذا الملجأ هو حصر التحدي في البلاغة، وتلك قضية جعلت بعض أهل الكلام يقول:
[إن التحدي قد انقطع بانقطاع زمن البعثة والوحي ..... مع أن جمهور أهل الإسلام على أن التحدي باق إلى يوم القيامة وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره.] [38]
¥