ثالثاً: أن المدعوين أولاً للتحدي هم الإنس والجن، ثم تدني الأمر فطلب منهم دعوة من يستطيعون من دون الله، ثم تدني الأمر إلى دعوة الشهداء وهم المناصرون لفكرة إمكانية المجيء بمثله وهؤلاء قلة.
رابعاً:كانت الآية الأولى إعلاناً من الله تعالى على لسان نبيه بعجز الخلق جميعاً عن المجيء بمثله، فقيل (قل لئن اجتمعت الإنس والجن .......
هذا بلاغ من الله تعالى للخلق جميعاً، ثم جاءت باقي الآيات لترد على دعوى افتراء القرآن من عند الرسول فقيل (أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بسورة أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بعشرة سور
أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ....
كل ذلك في الآيات المكية الأولى: أما آية المدينة وهي آية البقرة فليست رداً على هؤلاء بل هي رد على من دخل قلبه الشك ولذا قيل (وإن كنت في ريب ... ) 0
إن السور المكية خطاب لجميع الناس. أما السورة المدنية فأغلبها [خطاب لمن أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنون.] [41]
خامساً:الملاحظ في الآيات الخمس أن كل وجه من التحدي يغاير الآخر ولا يوجد وجهان متماثلان في التحدي، وها هي أوجه التحدي حسب نزولها:
[مثل هذا القرآن] [سورة مثله] [عشرة سور مثله] [حديث مثله] [سورة من مثله].
سادساً:إن هذا الترتيب من الممكن فهمه على أنه تدلٍ في التحدي من الأكثر إلى الأقل من حيث العدد، ولكن بضرب من التأويل، فماذا يفهم من الترتيب المصحفي؟
لننظر ....
الترتيب المصحفي:
جاء ترتيب الآيات في المصحف كما هو معلوم: [سورة البقرة ثم يونس فهود ثم الإسراء ثم الطور.].
وهذا الترتيب سألخصه لك على النحو التالي حيث كان التحدي في [سورة من مثله – ثم سورة مثله – فعشر سور من مثله – ثم مثل هذا القرآن – ثم حديث مثله.]
ولقد وقف العلماء أمام هذا التدرج وحاولوا تأويله على غير ترتيبه فقالوا: [إن التحدي بعشر سور وقع أولاً، فلما عجزوا تحداهم بسورة من مثله، كما نطقت به سورة البقرة ويونس، وهو إن تأخر تلاوة إلا أنه متقدم نزولاً، وأنه لا يجوز العكس إذا لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة، وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشرٍ معينة من القرآن.
وذهب ابن عطية إلى أن التحدي بعشر سور وقع بعد التحدي بسورة وأنكر تقدم نزول هذه السورة ... وقال .. :
إن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام، فلما عجزوا عن ذلك أمر بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ...
وقيل إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن
وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة.] [42]
هكذا قالوا ..
وأنا أسأل هنا: هل نزول بعض الآيات قبل بعض مسألة اجتهادية؟!
أليس عجيباً أن يقال: إن التحدي وقع أولاً بكذا حتى وإن تأخر في النزول؟!
لقد قلت: إن الترتيب النزولي يُثبت ضرباً من التدلي، أعني أن التحدي في الأكثر ثم في الأقل.
وهنا أقول أن الترتيب المصحفي يعكس ذلك 000 أي أنه يتدرج في التحدي من سورة إلى عشر سور إلى القرآن الكريم كله.
وكأن القرآن ـ كما أفهم ـ يعرض قضية التحدي من الوجهتين صعوداً ونزولاً، وعلى من يريد المعارضة والتحدي أن يختار لنفسه، ومن هنا يثبت العجز من كل وجه.
...
المبحث الرابع
مفهوم الإعجاز في كتب العلماء
يقول ابن فارس في المقاييس إن [العين والجيم والزاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على الضعف، والآخر على مؤخر الشيء.
فالأول: عَجَزَ عن الشيء يعجز عجزاً فهو عاجز، أي ضعيف، وقولهم: إن العجز نقيض الحزم، لأنه يضعف رأيه.
ويقولون: " المرء يعجز لا محالة " ويقال: أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه، ولن يعجز الله شيء، أي: لا يعجز الله تعالى عنه متى شاء.
وفي القرآن الكريم: (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (الجن: من الآية12)
وقال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) (الشورى: من الآية31)
ويقولون: عَجَز، بفتح الجيم، ولا يقال: عجِز إلا إذا عظمت عجيزته، ومن الباب: العجوز: المرأة الشيخة.
وأما الأصل الآخر:
¥