وهناك من تحير في وجه الإعجاز حين سئل عنه فقال: [هذه مسألة فيها حيف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته.
كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعني آيه في نفسه ومعجزة لمحاولة وهدي لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله من كلامه، وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.] [52]
وإذا كانت هذه التوجهات قد قيل بها في زمان اشتغل الناس فيه بالقرآن الكريم كلغة وبيان ونظم وبرهان، فلقد جاء زمان امتاز بنمط آخر من الاهتمام وهو الاهتمام بالعلم التجريبي، ولم يبخل القرآن عليهم بما يمدهم من وجوه أخرى غابت عن أسلافهم.
وسواء اتفقنا مع هؤلاء أو اختلفنا معهم فإنه يجدر بنا الوقوف على جهدهم وعدم إغفاله عند الحديث عن إعجاز القرآن الكريم أو تحدي القرآن الكريم للناس.
ذلك لأنه هؤلاء ينطلقون من قاعدة لا يعتريها شك وهي أنه: إذا كان القرآن الكريم معجزاً في نظمه فإن فيه أيضاً حقائق أخرى متعلقة بالغيب، وموصولة بالتشريع ومربوطة بأسرار الكون.
وكل ذلك لا يعقل أن يكون العرب قد طولبوا به، لأنه لا علم لهم به.
أضف إلى ذلك: أن ابتعاد الناس عن اللغة الفصيحة اليوم يقلل من الأضواء التي ألقيت في السابق على الإعجاز البلاغي، ولا تنس أيضاً أن الإعجاز للإنس والجن كما صرح القرآن الكريم وهو تحد مستمر إلى يوم الدين، مما يعني أن تحجيم الإعجاز وقصر التحدي على اللغة وبلاغتها تغييب لعصٍر يحياه الناس الآن، أو تغييب للقرآن الكريم، وكلا الأمرين خطأ في ظل هذا الصراع القائم بين الإسلام وغيره من العقائد المختلفة.
فدعونا نقف قليلاً على هذا الوارد الجديد، وهو الإعجاز العلمي أولاً:
...
المبحث الخامس
أشهر وجوه الإعجاز
[الإعجاز العلمي ـ الإعجاز التأثيري ـ الإعجاز الغيبي] أولاً: الإعجاز العلمي:
على الرغم من وجود طائفة من العلماء الآن تجد أن اللغة التي تناسب العصر هي لغة الإعجاز العلمي، وأنه ينبغي إغلاق الباب الآن حول الوجوه الأخرى لأنها لا تتساوق مع حديث الناس اليومي واهتماماتهم، فلغة الناس اليوم هي لغة الكمبيوتر والذرة وغزو الفضاء وعلم الجينات ... إلى آخر هذا الفيض من المكتشفات، 000 أقول على الرغم من هذا إلا أن هناك من يرى أن الأولى أن نجنب القرآن كل هذا، لأن اللفتات العلمية فيه ليست مقصودة لذاتها بل هي داخلة في إطار الهداية، ودلالة الخلق على الخالق.
وأنا هنا أسجل الموقفين ثم أدلف إلى مراد البحث:
فالفريق الأول يرى أن القرآن الكريم يفيض بالآيات العلمية عن الكون ومراحل تكونه وظواهره المختلفة، والسنن التي تحكم هذه الظواهر ووصل عدد هذه الآيات في الإحصاء إلى ألف آية صريحة عدا الآيات الأخرى التي تدنو أو تبعد.
وعمدتهم في كل هذا قول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ) (فصلت: من الآية53)
حتى نادي صاحب كتاب جواهر القرآن على الناس قائلاً:
[يا أمة الإسلام آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً في علم الرياضيات فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها .... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور الإسلام ....
يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في علوم الميراث؟ ....
إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن، بل هي علوم لفظه .... ] [53]
فهذا الوجه يعتمد أهله على أن القرآن الكريم كتاب علم بجانب كونه كتاب هداية، وأن طلاب العلم ينبغي أن يولوا وجوههم تجاه هذه القبلة، قبلة العلوم فهي لغة العصر، وميزان التقدم، كما كانت البلاغة والفصاحة هي لغة العصر وميزان التقدم في العصر الجاهلي.
¥