فالقرآن الكريم رسالة متجددة لكل العصور وحين يكون العصر عصراً لغوياً فهو معجزة بلاغية، وحين يكون العصر يموج بالعلوم التجريبية فهو معجزة علمية ولا ننكر الأخرى، وكلما تقدم علم الإنسان وتقدمت اهتماماته فتح القرآن من خزائنه ما يبرهن على أنه كلام الله تعالى 0
ولم أجد أحداً قديماً أو حديثاً من علمائنا الأجلاء توقف عند وجه واحد من وجوه الإعجاز وأنكر الباقي، بداية من الأوائل مثل الرماني والخطابي وعبد القاهر وانتهاء بأساتذتنا مثل محمود شاكر ورجب البيومي وأبي موسى ومحمود توفيق وغيرهم 0
ولا عجب في أن يروا هم أن المقدم من الوجوه هو الإعجاز البلاغي ويري البحث غير ذلك.
ثانياً: الإعجاز التأثيري:
تأثير القرآن في الناس أمر بدهي لكل ذي عينين، حتى سماه المشركون سحراً، والذي ينبغي التوكيد عليه هنا أن القرآن الكريم كتاب هداية.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)
(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)
ذاك هو الهدف من القرآن الكريم، بل هو الهدف من وراء كل معجزة أتي بها الأنبياء.
ولقد كان العرب قديماً يعرفون له هذا الأثر فقالوا: (هذا سحر مبين) وقالوا (إن له لحلاوة) وقالوا لبعضهم (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه).لأنهم إن سمعوه بقلب فارغ من العداء أسرهم وأحاط بهم وأخذ بمقاليدهم فلا يجدون مفراً من التسليم له واتباع ما فيه.
والقصة التي أوردها ابن خلكان في شأن أبي عبيدة معمر بن المثني وهو يدافع عن القرآن الكريم، والتي قيل إنها سبب نشأة علم البلاغة هذه القصة تبين بجلاء أن قضية القرآن، ليست قضية لغوية، وأن التحدي فيه لم يكن في اللغة وفصاحتها وسموها .. إنما في شيء آخر، والقصة ملخصها:
أن إبراهيم بن إسماعيل الكتب سأل عن قول الله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات:65). وكان العجب أن يقع الوعيد بمثل هذا حيث لم ير أحد رءوس الشياطين، وكانت إجابة أبي عبيدة مضيئة لكثير مما غمض علينا، فماذا قال؟ لقد قال: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم. ثم ذكر من شعر أمرئ القيس ما يؤيد هنا وذلك قوله:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والعرب لم تر الغول، ولكن لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به.] [55]
المهم هنا قوله: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم.
وهذا يؤيد أن أغلب تعليقات العرب على القرآن الكريم لم تكن على بلاغته بل على هديه وأثره في نفوسهم.
ولقد بعث أكثم بن صيفي ـ وهو من حكماء العرب المعدودين ـ ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه ...
فاستمع الولد إلى رسول الله، ولا يخفي أن رسول الله كان يُسمِع كل وافد القرآن الكريم .. فلما جاء الولد أباه وأخبره بما سمعه من رسول الله جمع أكثم قومه ثم قال لهم: إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتاني بخبره وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهي عن المنكر ويأخذ بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله .... الخ وهذا الكلام لا ذكر فيه لبلاغة أو فصاحته.
[ولقد كان كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة أول كتاب يبحث في أسلوب القرآن الكريم ويوازن بينه وبين كلام العرب لينتهي من الموازنة إلى أنه نمط من ذلك الكلام ... وكلمات من كلام الناس ولكن يفعلن هذا الأمر العجيب في النفوس ويقمن هذا السلطان القاهر على القلوب ...
وهذا الوجه من وجوه الإعجاز هو المعجزة القائمة في القرآن الكريم أبداً الحاضرة في كل حين، وهي التي تسع الناس جميعاً، عالمهم وجاهلهم، عربيهم وأعجميهم، إنسهم وجنهم.
إن هذا الوجه عمدة وجوه الإعجاز في القرآن، فالروعة التي كانت تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته هي مثال إعجازه، وهي المعجزة القائمة أبد الدهر وهو الوجه الذي من حقه في رأينا، أن يكون وجه الإعجاز وحده.] [56]
وهكذا نظر العلماء إلى الإعجاز التأثيري، وعدوه الوجه الذي من حقه أن يكون وجه الإعجاز وحده.
وكأنهم يؤكدون عدة أمور، من خلال كلامهم، منها:
¥