إن الغيب هو القرآن الكريم، هو الحديث عن الله وملائكته ورسله وعن الكون بما فيه وعن القيامة بما فيها، وعن الماضي كله والمستقبل كله، ولو تصفحت كتاب الله تعالى لن تعدم شيئاً من هذه الأمور، حتى في السور القصيرة، وأقرأ من أول سورة الناس وهي تحدثك عن إله واحد مالك للجميع يعيذك من شر الشيطان الذي يوسوس في الصدور ... وكل ذلك كما تلحظ غيب.
ثم انتقل إلى سورة العلق وهي تحدثك عن [ثلاثة أنواع من الشرور:
أحدهما: وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.
والثاني: صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.
والثالث: صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.] [62]
وكل هؤلاء غيب: حتى في أقصر صورة في القرآن وهي سورة الكوثر حديثان عن الغيب
الأول: الكوثر وهو نهر في الجنة.
والآخر: الإخبار بأن مبغض النبي هو الأبتر بقطع ذكره الطيب إلى يوم القيامة 0
والذي أريد أن أقرره هنا أن الغيب وجه من وجوه الإعجاز، لكن هل وقع التحدي به؟ وهل المثلية المرادة هنا مثلية غيب؟
وهل المطلوب من الجن والإنس أن يأتوا بكلام يحدث الناس عما وقع في الماضي أو ما سيقع في المستقبل؟
إن القرآن يقول:
1 - (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ... ِ) (البقرة 2:3)
2 - (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (آل عمران: من الآية44)
3 - (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجن 26: 27)
إن الغيب والإطلاع عليه وجه من وجوه التحدي، أتي به النبي من عند ربه ولكنه ليس كل التحدي، وحين يقول القرآن (فأتوا بسورة من مثله) قد يعني الغيب وقد يعني غيره، وبخاصة أن البشر لا إطلاع لهم على الغيب.
إن الأمر قد يكون، وقد لا يكون، في كل ما سبق.
قد تكون المثلية المطلوبة مثلية علم، أو مثلية هداية، أو مثلية غيب وقد تكون المثلية غير ذلك، وقد تكون في مجموع ذلك.
ولقد عرضت لك حديث العلماء عن الإعجاز العلمي والتأثيري، والغيبي وفي كل مرة نرى أنه من الممكن حمل المثلية على هذا الوجه، ومن الممكن لا.
لكن الشائع في ميدان البلاغة حتى صار هو الأصل في كتبهم أن المثلية المطلوبة في آيات التحدي هي مثلية أسلوب ونظم وبلاغة، ... وغير ذلك من أوصاف تعود على لغة القرآن.
وأقف بك على هذا بعض الوقت.
...
المبحث السادس
الإعجاز البلاغي
رؤية نقدية
ارتبط الإعجاز بالبلاغة منذ نزول القرآن الكريم على العرب، والمعلوم سلفاً أن العرب قوم بضاعتهم البلاغة والفصاحة المتمثلة في الشعر والخطابة والحكم والأمثال، وحين نزل القرآن الكريم وهو كلام الله على قوم هذه بضاعتهم انصرفت الأذهان مباشرة إلى جمال هذا الكلام وحلاوته، وعلو منزلته، وسمو تراكيبه، حتى التصق الإعجاز بالفصاحة والبلاغة، وهنا يطرح سؤال مهم:
ما الذي ربط الإعجاز بالبلاغة هكذا حتى بدا كأنه إجماع للأمة، أو على الأقل: ما عليه جمهور العلماء؟
الذي يظهر لي، أن هذا الارتباط نشأ من عدة أمور منها:
1 - أن القرآن نزل على العرب.
2 - أن العرب اشتهروا بالفصاحة والبلاغة وهم يعتقدون أن المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم.
3 - أن هذه المعجزة ما هي إلا كلام.
4 - ما أثر عن بعض العرب في وصفهم للقرآن حين تأثروا به بأن له حلاوة وأن عليه طلاوة ... الخ.
كل ذلك حسب ظني هو الذي حبس الإعجاز في هذا الركن الضيق وصرف الأذهان عن غيره زمناً طويلاً.
لقد نظرنا إلى القرآن الكريم نَظَرَنا إلى القصيدة أو الخطبة أو الحكمة فما دامت المعجزة كلاماً، فإعجازها وتحديها في ألفاظها وتراكيبها، ورحنا نقول أن هذه المعجزة تكمن في إحاطة الله علماً بكل شيء , ومن هذه الأشياء الكلام وترتيب الألفاظ، وأي لفظة تصلح أن تلي اللفظة الأولى، وأي الألفاظ يثلث بها لبيان المعني، ومطابقة هذا الكلام لمقتضى أوال الناس 0000.
¥